بقلم رشا فرحات
كشفت دراسة صادرة عن معهد تأثير الإيمان في الحياة البريطاني (IIFL)، اعتمدت على استطلاع شمل 2774 شخصًا غيّروا معتقداتهم الدينية، أن الصراعات العالمية أصبحت عاملًا حاسمًا في توجه البريطانيين نحو الإسلام، وأن 20% من المعتنقين الجدد للإسلام فعلوا ذلك بسبب الحرب على غزة تحديدًا، بينما اختار 18% الإسلام بحثًا عن معنى واستقرار نفسي.
وتؤكد الدراسة أن ما نشرته وسائل الإعلام خلال عامي 2023 و2024 حول ازدياد الاهتمام بالإسلام في بريطانيا لم يكن مبالغًا فيه، بل تحولًا اجتماعيًا حقيقيًا، تزامن مع تراجع الثقة بالروايات الرسمية، خاصة تلك المتعلقة بإسرائيل وحربها على الفلسطينيين.
هذا التحول الغربي العميق لا يمكن فهمه بمعزل عن اللحظة المفصلية التي شكّلها طوفان الأقصى، ليس بوصفه حدثًا عسكريًا فحسب، بل كزلزالٍ ضرب الوعي العالمي.
فقد انكشفت أمام البريطانيين وغيرهم أبعادٌ لم يكونوا يرونها من قبل: صور الأطفال تحت الأنقاض، ركض العائلات بين القصف، المستشفيات المدمرة، وجوه الصحفيين الذين يسجلون رسائلهم الأخيرة، كل ذلك أعاد تشكيل نظرة العالم إلى ما يجري في غزة.
جيل جديد بات يتعامل مع فلسطين لا بوصفها “نزاعًا بعيدًا”، بل كمرآة أخلاقية تفضح الظلم، وتدفعه لإعادة التفكير في معتقداته ونظام قيمه.
على مدى سنوات طويلة، احتكر الاحتلال صياغة السردية في الغرب، مستفيدًا من الدعاية والإعلام واللوبيات السياسية.
لكن فجأة، وبفضل هاتف محمول ولقطة سريعة، اهتز هذا الاحتكار. فالتوثيق الفلسطيني — البسيط، الخام، غير المصقول — كان أقوى مما توقع الاحتلال.
لقد وُلد جيل عالمي جديد يتعلم القضية الفلسطينية من فيديو مدته عشر ثوانٍ أكثر مما تعلّمه آخرون من كتب التاريخ.
وكما تقول الدراسة البريطانية، فإن مشاهد الظلم التي وثّقها الفلسطينيون أسهمت مباشرة في تغيير معتقدات آلاف البريطانيين، الذين رأوا في الإسلام معنى للعدالة والانحياز للحق.
منذ الساعات الأولى في السابع من أكتوبر، بذل الاحتلال جهدًا محمومًا لفرض رواية واحدة على العالم: “هجوم مفاجئ، إرهاب بلا سياق، ولا تاريخ”. لكنه لم يستطع إسكات السياق: سبعة عقود من الاحتلال والقمع، وحصرٌ طويل خانق على غزة، وليلٌ لم يرَ فيه الغزيون إلا الطائرات.
ومع بدء الإبادة ، انهار جدار التعتيم. الصورة أصبحت سلاحًا لا يقل أثرًا عن السلاح في الميدان، وأصواتٌ كثيرة في الغرب بدأت تتساءل: لماذا كل هذا العنف؟ ولماذا تبدو الرواية الإسرائيلية وكأنها مفرغة من الحقيقة؟
ومع انتشار المحتوى الفلسطيني — شهادات، توثيق، بث مباشر، مونتاجات بسيطة، شهادات أطباء وصحفيين — اكتشف العالم أن ما يقوله الفلسطينيون ليس “رأيًا” بل واقعًا موثقًا.
كانت قوة هذا المحتوى على بساطته: ليس وراءه مؤسسة، ولا ميزانية، بل بشرٌ يعيشون تحت القصف ويصرّون على تسجيل اللحظة. وهنا، انهار أحد أهم أسس قوة إسرائيل: السيطرة على صورة الذات أمام الغرب. الصور التي حاولت دفنها بالدم ظهرت أقوى من كل جدار رقابي، وأصبحت تُعرض في شوارع لندن وبرلين ونيويورك، وفي الجدل السياسي داخل البرلمان البريطاني نفسه.
لقد ولّدت لحظة 7 أكتوبر صورةً يخشاها الاحتلال أكثر من صاروخ: صورة مقاوم يتقدم بخفة، جندي إسرائيلي يهرب، حدود تنهار أمام رجال يعرفون الأرض.
حاول الاحتلال دفن تلك الصورة عبر تدمير غزة، لكن العالم بقي يتذكر البداية أكثر مما يخاف من النهاية. وتحوّلت المشاهد القاسية إلى مادة لإعادة بناء الضمير العالمي، لا لإطفائه، حتى صارت محرّكًا غير مباشر لانكسار السردية الإسرائيلية في العقول والقلوب.
إنّ الدراسة البريطانية، بما تحمله من أرقام واضحة، ليست مجرد تحليل اجتماعي، بل شهادة إضافية على أن الحرب على غزة لم تغيّر الخرائط فقط، بل غيّرت خرائط الوعي العالمي كله عبر صورة مقاوم قرر أن يحمل روحه على كفه ومواطن قرر أن يصور دماء غزة النازفة بهاتفه القديم.
لقد أصبح المجتمع البريطاني نموذجًا لتحوّل أكبر يجري في العالم: تحوّلٌ من الاستماع إلى الرواية الإسرائيلية، إلى مساءلتها. من الثقة في الإعلام التقليدي، إلى البحث عن الحقيقة في روايات الضحايا. ومن تجاهل معاناة الفلسطينيين، إلى التعاطف معهم لدرجة تغيير الدين نفسه طلبًا للعدالة والمعنى.
وهكذا يتبين أن ما حدث بعد 7 أكتوبر لم يكن مجرد حرب، بل ولادة وعي عالمي جديد، يدرك العالم من خلاله أن الحقيقة — مهما حاول الاحتلال إسكاتها — ستجد دائمًا طريقًا لتتكلم.

