اثنان وعشرون عامًا.. مروا دون وجوده حولهم، دون أن يرى طفلتيه تكبران وتصبحان عروسين، دون أن يرى قدسه التي أحبها، وأرضه التي لطالما سار في شوارعها، وأقصاه الذي يتوق لسجدة واحدة فيه قبل الممات.
حكايةٌ يملأها القهر والحزن والحرمان، وعلى صعيدٍ آخر مناقض، يملأها العزة والصمود والثبات والإرادة، كيف لا وهو رغم مرارة السجن والسجان، ورغم الظلمة الحالكة هناك في زنزانته المقيتة، جعل من الظلام نورًا، ومن الجدران أوراقًا خط عليها مسيرة من العطاء والعلم والمعرفة.. لينبثق النور من زنزانة صغيرة فيملأ الأرض شرقا وغربا.
اليأس.. ليس مدونا في قاموسه، والحزن كالشبح يطوف حوله، إلا أنه برغمه ما زال متشبثًا بأمل الحرية، كان يتوق لأن يرى طفلًا جديدًا منه ينير عليه وحشته، لكن شاء الله أن يهديه شمسًا ولكن بطريقة لم تخطر على باله! ولم يتخيل يومًا أن هذا سيحدث وهو ما زال في الأسر.
إنها حكاية الأسير المقدسي البطل: رمضان مشاهرة.
من هو؟!
رمضان عيد رمضان مشاهرة، مقدسي من بلدة جبل المكبر، ويبلغ من العمر 47 عامًا، قضى منها 23 عامًا في الأسر على مرحلتين، الأولى سجن عامٌ واحد، والثانية 22 عامًا، منذ عام 2002 حتى يومنا هذا.
متزوج من السيدة هند عميرة ورزق منها بطفلتين، البكر سلسبيل، والثانية شهادة والتي اعتقل قبل أن تضعها زوجته، ليحرمه الاحتلال من رؤية طفلته الجديدة عند الميلاد.
وجه له الاحتلال تهمًا واهية، بانخراطه بالانتفاضة الثانية ومقاومته له، وبناء عليه أصدرت حكمًا جائرًا بحقه وصل إلى 20 مؤبد!
انتهاكات لاحقته داخل المعتقل
خضع الأسير مشاهرة لتحقيق مكثف استمر لـ3 أشهر، وخاض 3 إضرابات عن الطعام، الأول مدته 18 يوما عام 2004، والثاني مدته 29 يومًا عام 2012، والثالث مدته 17 يوما عام 2019.
وعزل مرتان، الأولى من 2004 حتى 2005 بتهمة التحريض على أعمال المقاومة داخل السجن، والثانية مع بداية عام 2020 بتهمة تهريب هاتف خلوي إلى السجن، والمشاركة في حرق قسم كامل 14 غرفة، واستمر هذا العزل 3 أشهر.
إبداع داخل السجون
رغم مرارة الأسر وظلمته، إلا أن الأسير مشاهرة أثبت أنه قادر على أن يصنع من العدم شيئًا، فأكمل دراسته وحصل على عدة شهادات بكالوريوس ودبلوم في تخصصات مختلفة، كما تعلم اللغة العبرية وأخذ دورات مكثفة باللغة العربية، وعمل محاضرًا في جامعتي الأمة والأقصى بقطاع غزة.
كما أنه كان خطيبًا مفوها، وحافظًا لكتاب الله -عز وجل- بسندٍ متصل عن رسول الله، وحبه وتعلقه بالقرآن الكريم، دفعه لتأليف كتاب مصحف الحفاظ في ضبط وتوجيه فواصل الآي، ومتشابه الألفاظ، وهو خلاصة لمجموعة من الأفكار الإبداعية للمساعدة على حفظ القرآن الكريم وتثبيته، وقد تفرغ لهذا العمل قرابة 8 سنوات.
ذرية صالحة
وعن عائلته الصامدة الصابرة، تقول زوجة الأسير رمضان مشاهرة “أم حمزة” لمعراج: “ربيت بناتنا تربية صالحة كما أراد وحلم، والحمد لله أنني ربيت ابنتين صالحتين مطيعتين وعابدتين، كبرا على عيني وأخذا كل جهدي، لأعوضهما عن حرمان الأب، فلما كبرتا أصبحتا عونا لي، تعوضاني عن سنين التعب”.
وتتابع الزوجة الصابرة حديثها قائلة:” عندما سجن أبو حمزة كنت حاملًا بطفلتي شهادة، وقد كانت آلام المخاض مضاعفة لأنه لم يكن معي، وحين وضعتها سميتها شهادة بناءً على رغبته”.
ولم يتسنى للأب المحروم من عائلته رؤية بناته إلى في مرات قليلة حين يسمح الاحتلال لهم بزيارة والدهم، من وراء الشبابيك، فكانت شهادة حسب ما تروي والدتها، لا تعرف والدها، بل تناديه بعمو، وبعد سنتين سمح لها الاحتلال بالدخول واحتضان والدها، فنطقت للمرة الأولى “بابا” بين أحضان والدها!
زواج البنات
تقول أم حمزة: “لم أدري كيف كبرتا سريعًا.. تزوجت سلسبيل البنت الأكبر، وبعدها تزوجت شهادة، وقد حاولنا تأجيل فرحها مرارا على أمل حدوث صفقة يخرج فيها والدها ويسلمها إلى عريسها، لكن شاءت الأقدار غير ذلك”.
تزوجت شهادة أيضًا دون أن يسلمها والدها لعريسها كما تمنت والدتها، إلا أنها منحته حفيدته الأولى زينب، والتي من شدة فرحته بقدومها وزع الحلوى على زملائه الأسرى حتى قبل ولادتها.
تصف أم حمزة زوجها الأسير أنه كان رافضًا أن ينادي حفيدته بكلمة “جدو” بل كان يناديها “عمو” إلى أن استوعب أخيرا أنها حفيدته حقًا وأن طفلته التي تركها وهي في بطن أمها، أصبحت اليوم أما هي الأخرى.
وكان الأسير رمضان قد حاول في مرات عديدة إنجاب أطفال جدد عبر النطف المهربة، لكن شاء الله ألا تنجح تلك المحاولات، إلى أن جاءت زينب فملأت قلبه سعادة وأعادت الأمل له من جديد، لتتحول الطفلة الصغيرة إلى أيقونة أمل وبهجة، وشمس تشرق في عتمة السجن.. لتملأه نورا وحياة.