بقلم: منير شفيق
تسلّم عام 2022 من عام 2021 مأثرته الكبرى في معركة سيف القدس المبدعة، وانتفاضة مناطق الـ48 المُفاجِئة والمُدهشة، وتظاهرات الضفة الغربية، وعظمة الرباط في المسجد الأقصى، والصمود في باب العامود وحيّ الشيخ جراح.
وسلّم عام 2022 عام المقاومة في الضفة الغربية، والمواجهات في المسجد الأقصى، لعام 2023، حالة مقاومة استثنائية، وذلك بتكريس السلاح العلني في كل من مجموعة الشباب الثائر في مخيم جنين، وعرين الأسود في نابلس، وما تلاهما من عشرات العمليات في عشرات القرى والمخيمات والمدن في منطقة القدس، والضفة الغربية.
ظاهرة المقاومة التي سادت في الضفة الغربية، جاءت لترث وتتراكم، على ظاهرة مقاومة عفوية ذات عمق شعبي واسع، لم يسبق له مثيل. وذلك في احتضان الجماهير، فوراً، للشهداء، والأمهات، والآباء، والشباب الغاضب الثائر.
هذه فرادة اتسّمت بها العمليات في الضفة الغربية، في هذه المرحلة، من تاريخ الصراع الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني. ولقد تكشفت، بتواضع، منذ اندلاع ظاهرة الهجمات بالسكاكين والدهس. وقد ظُنّ كل الظَنّ أنها ستكون عابرة حتى مضت ست سنوات عليها. وتمثل خطأ هذا الظَنّ عندما وصفها البعض بظاهرة “الذئاب المنفردة”، أو بظاهرة الغضب الشبابي الفردي العابر.
وقد امتدّ هذا الوصف الركيك، حتى إلى وصف عمليات كل من غالب أبو القيعان وضياء حمارشة ورعد الخازم وآخرين، وذلك لأن هذا الوصف اعتمد على الحالة الفردية في التنفيذ، ولكن لم يُلحظ أنه لم ينبع من نزوات فردية، أو غضب فردي، وإنما من رأي عام فلسطيني إجماعي، خصوصاً في القدس والضفة الغربية، من خلال احتضانه بحرارة وحماسة، وبلا تردّد، كما لو أن هذا النبض الجمعي هو الذي رتب كل عملية من العمليات الفردية، وأدخلها في “تنظيم طليعي”.
بكلمات أخرى، يجب أن تلحظ فوراً الرابطة بين هذا النمط الفردي من جهة، وبين الاحتضان الشعبي لها متمثلاً بالجنائز، كما بإجماع شعبي لا تخطئه عين، أو أذن، أو قلب.
وهو ما يجب أن يُلحظ الآن في العلاقة بين الشباب الثائر في جنين وعرين الأسود، وامتداداتهما الواسعة، وصولاً إلى شعفاط والخليل وقضائها، ولا تستثني حتى من لم يُخرِج السلاح بعد. ولهذا ليس من قبيل التمني لو قلنا إن الوضع على أعتاب انتفاضة عامة، كما ليس من قبيل “التطاول” لو قلنا إن ظاهرتيّ جنين وعرين الأسود، وامتداداتهما، يمكن أن تُعاملا كأهم ما يجب أن يُحافظ عليه من قِبَل كل الفصائل، وكل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. ومن ثم نحن وصلنا إلى مرحلة من المقاومة لم يسبق لها مثيل، وهي تلتقي مع المقاومة في قطاع غزة، على طريق تحرير فلسطين كل فلسطين، من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.
على أن هذه الصورة في هذه الأيام تتواجَه، بالضرورة، مع تطوّرات في الكيان الصهيوني، راحت تؤشر إلى ضعف وتخبّط، عنوانهما ائتلاف حكومة نتنياهو، وذلك بما ضمته من جماعات الهيكل المزعوم، وفي مقدمتها إيتمار بن غفير.
لو نستند إلى ما سبق وصرح به أعضاؤها، مع تماهي نتنياهو معهم، لوجب توقع سياسة استيطانية شرسة، وانتهاكات في المسجد الأقصى، تكرسّ وقائع تهويدية هيكلية، تفقده طابعه الإسلامي في إطار استراتيجية إحلال الهيكل المزعوم مكانه، أو التأسيس لذلك، وتالياً لا بدّ من توقع هجمات كاسحة على الضفة الغربية. طبعاً هذا متوقع.
بيد أن هذا كله، سيتحوّل إلى نقيضه إذا ما قُدّرت موازين القوى حقّ قدرها، صهيونياً وأمريكياً وأوروبياً من جهة، وفلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً من جهة أخرى.
يخطئ من يظن أن السياسة، وما ينجم من وقائع ونتائج على الأرض، تحكمها الرغبات، أو التصريحات، أو العنتريات. إن ما يحكم السياسة، وما يترتب من وقائع ونتائج، إنما هي موازين القوى، وإن حساب موازين القوى لا يقتصر على حساب ما يُمتلك من أسلحة وجيوش؛ لأن قراءة موازين القوى قراءة صحيحة، يجب أن تبدأ بقراءة حالة القوّة المسيطرة، قبل حالة القوى الناهضة والثائرة.
وهنا يجب أن تُلحظ حالة القوى المُسيطرة، هل دخلت مرحلة شيخوختها أو انحلالها النفسي والأخلاقي والمعنوي، وهل راحت تعاني التناقضات الأساسية المكوّنة لها. فإذا كان الجواب بالإيجاب عن هذه الأسئلة، فاعلم أنك دخلت في مرحلة يتغلب فيها الأضعف الناهض الفتيّ على القويّ الخائر، أو في مرحلة تتغلب فيها الفئة القليلة على الفئة الكثيرة.
لننظر في التطبيق العملي كيف راحت تتدهور قوّة الكيان الصهيوني، وعلى التحديد الجيش والمؤسّسة الأمنية والبنية الاجتماعية والسياسية. ولنبدأ من عام 2000، ونبقي في الذاكرة ما كان عليه جيش الكيان الصهيوني منذ الخمسينيات (بل من 1948).
ففي العام 2000 انسحب جيش الاحتلال الصهيوني انسحاباً مذلاً من جنوبي لبنان، وهُزم في حرب 2006 أمام المقاومة، وسقطت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وانسحب، بلا قيدٍ أو شرط، تحت ضربات المقاومة والانتفاضة من قطاع غزة وفكك المستوطنات في 2005، وانهزم في حروب 2008/2009، و2012 و2014 أمام المقاومة في قطاع غزة، وقد سجلت عليه نصراً في حرب سيف القدس 2021.
وها هي ذي المقاومة تتصاعد في الضفة الغربية ومنطقة القدس، كما مرّ أعلاه، وظهر السلاح علناً في مخيم جنين، وفي نابلس ومناطق أخرى.
هذه الوقائع أدّلة لا تُدحض على عمل موازين القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني، المتفوّق بالسلاح والعتاد وعديد الجيوش. وثمة الكثير مما يمكن أن يُقال عن وضعه الداخلي، وما يُعاني من تناقضات وتفسّخ. وقد جاءت حكومة نتنياهو الحالية، لتزيد الوضع الداخلي السكاني ضعضعة وانحلالاً، الأمر الذي يجعل كل ما يصدر من تصريحات متناقضاً مع موازين القوى الحالية، ومن يُعاند موازين القوى، والحالة هذه، مصيره الفشل والهزيمة. ومن هنا يًصبح مجيء إيتمار بن غفير، بل وحكومة الائتلاف كلها، فرصة للمقاومة وللشعب الفلسطيني، وليست بلاءً وابتلاءً لا يُردّان.
هذا ويجب أن يُشار بعجالة إلى أن هذا الائتلاف سيربك أمريكا في تأييده، ويحرّض الرأي العام العالمي ضده، إذا ما وقعت المواجهة، وسوف يشلّ ما أسموه تطبيعاً من قِبَل بعض الأنظمة العربية.
ومن هنا فإن الشعب الفلسطيني سيتحّد، ويجب أن يتحّد، داخل فلسطين وخارجها، وعلى المقاومة في الضفة الغربية والقدس، كما في قطاع غزة، أن تتهيّأ للمواجهة، لا سيما حين تصل إلى المسجد الأقصى، حيث الحرب المنتصرة في الانتظار.
فالمتوقع أن يُعلن نتنياهو ويُباشر بالتوسّع في الاستيطان، وفي شنّ الهجمات على المقاومة، ولكن الهجمة الرئيسة ستكون على المسجد الأقصى، وهنا لا بدّ من أن تقع المعركة الرئيسة التي يجب أن يُهيأ لها سياسياً في كل الأصعدة في الداخل والخارج لتخاض حربها الشاملة المنتصرة. فلا يجوز أن يُقتحم المسجد الأقصى أو يُنتهك من قِبَل متطرفين مستوطنين معتدين، أو أن يحتل من قِبَل جيش الاحتلال والقوى الأمنية الصهيونية. ولا يحق لأحد -من يكون- أن يُناقش في عدالة الحرب التي تشن ضده، ولا يرى فيها دعماً من القانون الدولي وستاتيكو الأماكن المقدسة، فضلا عن وجوبها إسلامياً وعربياً وعالمياً، كما حقاً فلسطينياً من الدرجة الأولى، فضلاً عن موازين قوى مؤاتية.