بقلم: علي إبراهيم
شهد عام 2022 واحدةً من أعنف موجات التهويد التي ضربت القدس المحتلة، وفي القلب منها المسجد الأقصى المبارك، الذي شهد تصاعد المطالبات ببناء “المعبد” المزعوم، واقتحام آلاف المستوطنين لساحات الأقصى، وما شهدته هذه الاقتحامات من طقوسٍ وصلواتٍ علنية، تعاملت مع المسجد على أنه “المعبد” في سياق تحقيق الوجود اليهودي داخل الأقصى، والمضي في إستراتيجية “التأسيس المعنوي للمعبد”.
ومع ما يحدث في القدس المحتلة من مشاهد اعتداء غير مسبوقة، يمكننا أن نسلط الضوء على أربعة سياقات أساسية، شكلت الاعتداءات الأبرز التي تعرضت لها المدينة في عام 2022، وهي:
– سجلت اقتحامات المسجد الأقصى رقمًا قياسيًا، هو الأعلى منذ عام 2009، بالإضافةً إلى ما شهده المسجد من محاولات أذرع الاحتلال الأمنية تقليل أعداد المرابطين داخله، عبر الاعتقال والإبعاد.
– تصاعد فرض الصلوات والطقوس اليهودية داخل الأقصى، وهو ما شهدته مختلف أيام الاقتحام، إلا أنه تصاعد مضطرد إبان الأعياد اليهوديّة، بالإضافة إلى اقتحام المسجد باللباس الكهنوتي الأبيض، ومحاولة إدخال القرابين إلى المسجد ونفخ البوق داخله.
– استمرار هدم منازل الفلسطينيين ومنشآتهم، في مقابل رفع حجم المشاريع الاستيطانية في المدينة، والمضي في تطوير البنية التحتية الخاصة بالاستيطان.
– استهداف مختلف قطاعات المجتمع المقدسي الحياتية، وخاصة استهداف قطاع التعليم في المدينة المحتلة.
شكلت القفزة في أعداد المقتحمين والمبعدين على حدٍ سواء، ومن ثم التمثيل الكبير الذي حصلت عليه “منظمات المعبد” في الحياة السياسية الإسرائيلية، ووصول أبرز وجوه هذه المؤسسات، إيتمار بن غفير، إلى سدة وزارة الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال الجديدة؛ معطيات ستفتح شهيَّة هذه المنظمات إلى تحقيق قفزة جديدة في أعداد مقتحمي الأقصى، وترسيخ الأعياد اليهودية مواسم للاستفراد بالمسجد، وأداء الطقوس اليهودية العلنية، وما يترافق مع هذه الأعياد من طقوسٍ ومحاولات تقديم القرابين ونفخ البوق وغير ذلك، بالإضافة إلى استمرار ترسيخ “أولوية” الأعياد اليهودية، عندما تتزامن مع العيدين الإسلاميين.
وستعمل سلطات الاحتلال على المُضي في سياسة إفراغ الأقصى بالتزامن مع هذه الأعياد، عبر ممارسة المزيد من الضغط على المرابطين عبر الاعتقال والإبعاد المتكرر، وتقليل وصول المصلين من خارج القدس المحتلة، وخاصة من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، في مقابل إعطاء المزيد من التطمينات للمنظمات المتطرفة، وتحقيق ما يريدونه من حيث حجم الصلوات اليهودية التي تؤدَّى في الأقصى، أو من حيث توسيع جسر باب المغاربة، للسماح بإدخال المزيد من المستوطنين، للمشاركة في اقتحام الأقصى.
وفي سياق متصل بالاعتداء على المسجد، شكلت سياسة منع ترميم الأقصى وصيانته ثابتًا لدى الاحتلال، يحاول عبره ابتزاز دائرة الأوقاف الإسلامية، ولا شك في أن تزايد إمكانية انهيار أجزاء من الأقصى، وخاصة من جهة التسوية الجنوبية الغربية بفعل منع الترميم، ستسمح للاحتلال بفرض واقعٍ جديد على المسجد، وهذا ما سيجعله يُمعن من جهة في حجم الحفريات أسفل هذه المنطقة، ويستمر من جهة أخرى في منع دائرة الأوقاف الإسلامية من القيام بأي ترميمات. وأظهرت السنوات الماضية أن المنع في كثيرٍ من الأحيان يكون عبر تعقيد إدخال المواد اللازمة، أو التدخل المستمر في العمل وغير ذلك.
2- المسار الديموغرافي:
أما على الصعيد الديموغرافي، فستستمر سلطات الاحتلال في هدم منازل الفلسطينيين ومنشآتهم، في مقابل تقديم المزيد من العطاءات الاستيطانية الضخمة، وهي محاولة للتدخل في الميزان الديموغرافي للمدينة، والدفع بالمقدسيين إلى الخروج من القدس.
واتصالًا بهذا المسار ستصعِّد سلطات الاحتلال تطوير البنية التحتية الخاصة بالاستيطان، وإنهاء المزيد من المشاريع التي تنفذها بلدية الاحتلال وأذرعه الأخرى، على غرار القطار الهوائي “التلفريك”، أو القطار الخفيف الأرضي، وشبكات الطرق السريعة، وغيرها.
3- مسار القطاعات الحياتية للمقدسيين:
أظهر عام 2022 أن الاحتلال لا يترك أيًا من مناحي الحياة في القدس المحتلة من دون تدخلٍ من قبله، وهو ما سيستمر في عام 2023، وخاصة في قطاعين أساسيين لدى المقدسيين، الأول قطاع التعليم عبر فرض المنهاج المحرَّف على المزيد من المدارس، ومحاولة ابتزازها عبر الترغيب المالي، والترهيب بالإغلاق. أما الثاني فهو القطاع الاقتصادي المعيشي، عبر تشديد الحصار والقيود على المحال التجارية في القدس، وجباية الضرائب الباهظة من المقدسيين، في محاولة إفقارهم.
4- مسار الحراك الشعبي والمقاومة:
عُدت المقاومة في عام 2022 أبرز الميادين التي أقلقت أمن الاحتلال، فقد شهدت أزقة المدينة المحتلة عشرات نقاط المواجهة، إلى جانب عددٍ من العمليات النوعية. ومع الإجراءات الجديدة التي يُعدها إيتمار بن غفير، فمن المتوقع أن تشهد أشهر عام 2023 المزيد من العمليات ونقاط المواجهة، خاصة أن ما يمكن أن يحدث في المسجد الأقصى وفي أحياء القدس سيؤثر في مشهد المقاومة في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وأن القبضة الحديدية التي يتوعد بها بن غفير ستنعكس على الوضع الأمني في المناطق المحتلة، إذ ستدفع بالمزيد من المقاومين إلى الانخراط في مقاومة العدو، مع إمكانية تدحرج الأوضاع تدحرجًا أكبر وأكثر امتدادًا على غرار الهبَّة الفلسطينية الشاملة في عام 2021.
أخيرًا كل زاوية في القدس المحتلة تشهد تصعيدًا من الاحتلال، واعتداء من مستوطنيه، ولكن القدس في المقابل هي خاصرة الاحتلال الرخوة، وما يستطيع الفلسطينيون القيام به في المدينة يؤثر في صورة عاصمة الاحتلال المزعومة، وتدفع به نحو المزيد من المآزق، خاصة أن القدس المحتلة قد أثبتت في السنوات الماضية أنها قادرة على عرقلة المحتل وإقلاق أمنه، وخلط الأوراق في مجمل المشهد الفلسطيني.
وسيكون عام 2023 خطيرًا على القدس وصعبًا على أهلها، فإنه سيكون للأمة امتحان بالغ الصعوبة، من ناحية ضرورة إعادة بناء التفاعل مع ما يجري في القدس والأقصى، وبناء أُطر الالتحام مع قضاياها أكثر، وهو الدور الأساسي للأمة من ناحية الإسناد والدعم والتفاعل.