بقلم: جعفر عباس
بحكم أن جيشها هو الأقوى في الشرق الأوسط، وبحكم أنها مدعومة عسكريا واقتصاديا من الولايات المتحدة، وبحكم أنها انتصرت في حروب 1948 و1967 و1973، ثم أسكتت بنادق حزب الله اللبناني في عام 2006، فقد افترضت إسرائيل أن حربها على غزة ستكون نزهة قصيرة، ولكن ها هي تلك الحرب في شهرها العاشر، وها هي غزة صامدة في وجه قوة عسكرية غاشمة، تعمل بمبدأ “داهيا” العسكري، الذي يقضي بتدمير المنشآت الاقتصادية والمدنية لـ “العدو”، مصداقا لقول شاعر فلسطين الكبير محمود درويش:
يا دامي العينين والكفّين
إنّ الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات، ولم تمُت روما…
بعينيها تُقاتل
وحبوب سنبلة تجفّ
ستملأ الوادي سنابل.
يفوت على حكومة إسرائيل، وهي تخدِّر مشاعر مواطنيها بالزعم بأن النصر في كل حرب حتمي، أن كفيلها الأمريكي، وهو الأقوى عسكريا في العالم، خسر حربه أمام غزة الآسيوية (فيتنام)، ثم باء بالخسران في لبنان وأفغانستان والصومال وهاييتي والعراق وسوريا، وما لا تدركه إسرائيل أيضا، هو أن حركة حماس التي تتصدر أعمال الدفاع عن غزة، لا تنشد نصرا عسكريا يحقق مراميها وغاياتها في غضون شهور أو سنوات قصار، بل تراهن على مراكمة ومواصلة التجارب النضالية وصولا إلى انتصار سياسي، ونجحت الحركة في غضون الأشهر القليلة الماضية في تحقيق بعض النصر السياسي، بأن انتفضت دول نصف الكرة الجنوبي كلها تقريبا ضد إسرائيل، وحتى الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل وقعت في حرج بالغ، ولم تجد بُدَّا من استنكار الحرب على غزة، وخرجت بعض دول أوروبا الغربية على بيت الطاعة الأمريكي وادانت الحرب بقوة، بل إن الرأي العام الأمريكي في غالبيته يقف في الخندق الرافض للحرب، وهكذا صارت إسرائيل دولة مارقة على العرف الإنساني والسياسي والأخلاقي المتعارف عليه دوليا.
قطعا ليس في الأجندة الراهنة لحركة حماس أن تهزم الجيش الإسرائيلي وتقيم دولة من النهر إلى البحر، ولكنها منتصرة حتى الآن بصمودها في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة، وانتصرت على نحو حازم وجازم في 7 تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي، عندما ضربت إسرائيل في عمقها بكفاءة عسكرية عالية، وبهذا قدمت إضافة نوعية للنضال الفلسطيني، يلهم الفلسطينيين جيلا بعد جيل، بعد أن ثبت أن إسرائيل لا عهد لها، فقد خذلت القيادات الفلسطينية التي وقعت معها على اتفاق غزة أريحا المعلول، ثم تنصلت من معظم بنوده التي تعطي الفلسطينيين قدرا من الاستقلالية، وبذلك أفقدت السلطة الوطنية الفلسطينية الهيبة والاحترام، بدرجة أن رئيس جهاز الشين بيت الإسرائيلي السابق أمي أيالون، نادى بإعطاء تلك السلطة بعض “الأفق السياسي” بما يضفي مصداقية عليها وموثوقية بها كي تكون “نِدّاً” لحماس.
لم يحدث أن تلقت إسرائيل في حروبها الكثيرة على دول المنطقة صفعة عسكرية موجعة كتلك التي تلقتها من عملية طوفان الأقصى، فالسهولة التي تمت بها عملية اختراق مقاتلي حماس الحدود، انطلاقا من أكبر سجن مفتوح في العالم، وتكبيد الإسرائيليين خسائر بشرية وعسكرية فادحة، وتحييد المؤسسة الحربية الإسرائيلية، جعل المراقبين السياسيين يستحضرون هجوم تيت في عام 1968، عندما امتص الثوار الفيتناميون الهزائم القديمة، ودخلوا فيتنام الجنوبية التي كانت قلعة عسكرية حصينة، فكانت بداية النهاية للوجود الأمريكي في فيتنام، ما جعل وزير الخارجية الأمريكي وقتها هنري كيسنجر يقول في عام 1969 “خضنا حربا عسكرية وخصمنا خاض حربا سياسية”، وقياسا على هذا، وباستقراء الوقائع، فإن حماس تنشد انتصارا سياسيا، ونجحت على حتى الآن في تحقيق معظم ما نشدته، وبالمقابل فإن غفلة إسرائيل عن تحضيرات عملية طوفان الأقصى التي استغرقت بضع سنوات، ثم تلقيها صفعات موجعة في سياق تلك العملية، كان هزيمة سياسية ماحقة لها.
قبل عشرين سنة حذر رئيس البرلمان الإسرائيلي الأسبق، أفروم بيرغ، في مقال في جريدة هيرالد تريبيون، من أنه “اتضح أن ألفي عام من النضال اليهودي للبقاء، انتهت بقيام دولة المستوطنات، التي تديرها نخبة لا أخلاقية فاسدة وخارجة على القانون، لا تأبه بمواطنيها أو عدوها.. ودولة تفتقر لإلى العدالة لا يمكن أن تعيش”، ثم أضاف: إن ممارسة إسرائيل للعنف المفرط لن يسحق المقاومة الفلسطينية، بل يجعل الفلسطينيين اكثر حماسا للمقاومة.
غاية إسرائيل المعلنة من حربها على غزة، هي جعل القطاع غير صالح لـ “العيش” لمليونين ونيف فلسطيني، بتدمير جميع المرافق وخلق أوضاع إنسانية مأساوية، ترغم الفلسطينيين على البحث عن أوطان بديلة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى اختفاء حماس من المسرح الفلسطيني، ولكن ما يؤكده مراقبو الحرب الحالية هو أن حماس ما زالت تحتفظ بأكثر من 85% من قدراتها القتالية، وأن إسرائيل غافلة عن حقيقة أن حماس ظلت الأكثر حماسا لإعادة توحيد غزة والضفة الغربية، في ظل حكومة من التكنوقراط تنظم لاحقا انتخابات، لأنها ترى أن ذلك يؤدي إلى خلق جبهة فلسطينية موحدة ومتماسكة، عوضا عن سلطة تعيش تحت الوصاية الأمنية الإسرائيلية.
تفيد وقائع التاريخ أن امبراطوريات أقوى شكيمة من إسرائيل سقطت واندثرت، لأن غطرسة القوة والاستبداد والاستخفاف بالخصوم جعلت حكامها غافلين عن آمال وآلام المحكومين، وكانت آخر الامبراطوريات سقوطا هي السوفيتية رغم مخالبها وأسنانها النووية، ومنطق التاريخ يقول أن إسرائيل تسعى إلى حتفها بظلفها، وأن بذور فنائها من غرس قادتها.