بقلم: الشيخ رائد صلاح
قد اعتادت ألسنتنا وأقلامنا أن تستخدم مصطلح (الكيل بمكيالين) للتدليل على النفاق السياسي الذي تتمتع به بامتياز الدول الكبرى والهيئات السياسية العالمية وفي مقدمتها (هيئة الأمم المتحدة) التي تحوّلت إلى ناد للمسنين ليس إلا، وبات من الواضح أن كل صنّاع القرار السياسي الذين يتحكمون بمصير هذه الدول وهذه الهيئات لا يزالون يصرّون على التحكم بمصير العالم على قاعدة (الكيل بمكيالين)، فنصرة المظلومين يكون لها كيل عندهم عندما يكون المظلومون من ذرية الرجل الأبيض، ويكون لها كيل آخر عندهم عندما يكون المظلومون من ذرية الرجل الشرقي الأسود أو الرجل الشرقي العربي أو الفلسطيني، بل يزدوج المكيال عندما يكون المظلومون من ذرية الرجل الأبيض المسلم أو من ذرية الرجل الأبيض الغربي المسيحي، وليس صعبًا أن نكتشف ذلك عندما نُجري مقارنة حول كيفية تعامل صنّاع القرار السياسي هؤلاء مع قضية فلسطين وقضية أوكرانيا أو مع قضية البوسنة وقضية كرواتيا علمًا أن كلا الشعبين البوسني والكرواتي هما من ذرية الرجل الأبيض إلا أن الشعب البوسني هو من ذرية الرجل الأبيض المسلم، أما الشعب الكرواتي فهو من ذرية الرجل الأبيض الغربي المسيحي، وهو مبرر صارخ في حسابات صناع القرار السياسي هؤلاء أن يكيلوا بمكيالين في هذه القضايا.
- وهكذا وعلى الملأ وفي رابعة النهار وعلى الخلفية نفسها باتوا يكيلون بمكيالين إذا كان المعتدي هو الاحتلال (الإسرائيلي) في مقابل إذا كان المعتدي هو احتلال آخر، كما شاهدنا ذلك عندما وقعت مأساة احتلال الكويت على يد القوات العراقية في مطلع التسعينيات.
- ولا يزال هذا الصلف السياسي القائم على قاعدة (الكيل بمكيالين) يعود على نفسه في هذه الأيام، ولنتصور لو كان المعتدي على أوكرانيا دولة غير روسيا، أي دولة ليست من ذرية الرجل الأبيض، لقام صنّاع القرار السياسي هؤلاء وعلى الفور بإحراق هذه الدولة، بادّعاء الحفاظ على السلام العالمي وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير، ولكن لأن المعتدي هو روسيا، وروسيا هي من ذرية الرجل الأبيض الغربي المسيحي، فلا يزالون يتلطفون مع روسيا نسبيًا.
- ولأنها هذه هي الدجالية السياسية القائمة على (الكيل بمكيالين) هي التي تحكم العالم، فهو أخرق كل من توقع خيرا من زيارة بايدن التي كانت قبل أيام، والتي تنقل فيها بين مكتب الرئاسة (الإسرائيلية)، ومكتب الرئاسة الفلسطينية، ومكتب الملكية السعودية.
- ومن راقب سلوكيات بايدن المكشوفة لكل عين مراقب، سيجد أنها كانت سلوكيات دونية تقول كل شيء عن خبايا هذه الزيارة!!
- ومن ضمن ما استوقفني من هذه السلوكيات المكشوفة هو كيفية تصرف بايدن مع الأطفال (الإسرائيليين) الذين استعدوا لاستقباله عندما زار مكتب الرئاسة (الإسرائيلية) في مقابل كيفية تصرفه مع الطفلين الفلسطينيين اللَّذَيْن استعدا لاستقباله عندما زار مكتب الرئاسة الفلسطينية، وسلفا أقول حتى يتأكد الجميع مما سأكتبه فأرجو من الجميع أن يعودوا إلى الأشرطة المصورة التي تظهر وتوثق كيف تصرف بايدن مع الأطفال (الإسرائيليين) من جهة، وكيف تصرف مع الطفلين الفلسطينيين من جهة أخرى؟!
- إن من سيعود إلى هذه الأشرطة المصورة ويمعن النظر في كلا المشهدين جيدا سيلاحظ بسهولة أن بايدن قد ابتسم للأطفال (الإسرائيليين) فقط، ولم يبتسم للطفلين الفلسطينيين!! وسيلاحظ بسهولة أن بايدن قد تكلم مع الأطفال (الإسرائيليين)، ولم يتكلم مع الطفلين الفلسطينيين!!. وسيلاحظ أن بايدن قد (تصدّق)!! من وقته على الأطفال (الإسرائيليين) ببضع دقائق، وسار ملاصقا لهم ببطء وهدوء كأنه يريد أن يحتضن كل واحد منهم، وفي المقابل لم (يتصدّق) بثانية واحدة من وقته على الطفلين الفلسطينيين، ومرّ عنهما كالبرق الخاطف، وكأنه خاف منهما، وخاف على نفسه أن ينفجر مرة واحدة (الإرهاب الفلسطيني)!! من هذين الطفلين الفلسطينيين، ولذلك يوم أن استلم من كل منهما باقة ورد لم تطاوعه نفسه أن يُقبّل هذين الطفلين، ولا أن يمسح على رأسيهما، ولا أن يهمس في أذنيهما بكلمة شكر، بل طارت على الفور باقتا الورد من يد بايدن إلى أيدي رجال حاشيته!!
- ورغم أنني لا أملك دليلا قاطعا إلا أنني أظن أن عدد الأطفال (الإسرائيليين) الذي جاوز العشرة في مقابل طفلين فلسطينيين فقط، حيث وقفت كل من هاتين المجموعتين كما شاهدنا ذلك- بالبث المباشر- في استقبال بايدن، إنني أظن أن تحديد عدد كل من هاتين المجموعتين تمّ بالاتفاق سلفا مع مكتب بايدن، ولذلك يبقى السؤال الصارخ الذي يفرض نفسه: لماذا هذا التمييز الصارخ في العدد المسموح حضوره من الطفولة (الإسرائيلية) في مقابل العدد المسموح حضوره من الطفولة الفلسطينية!!
- وهذا يعني وبناء على هذه المقارنة السريعة التي أجريتها في كيفية تعامل بايدن مع الطفولة (الإسرائيلية) والطفولة الفلسطينية فإنني لا أتردد أن أقول: إن بايدن كال بمكيالين في قضية الطفولة، وخصّص كيلًا للطفولة (الإسرائيلية) وكيلا آخر للطفولة الفلسطينية، وهذا يعني أن الطفولة البريئة التي لا تزال على الفطرة سواء كانت طفولة (إسرائيلية) أو طفولة فلسطينية لم تسلم من (الكيل بمكيالين) في حسابات بايدن!! فإذا كان بايدن قد سقط في امتحان الطفولة، فهل ننتظر منه خيرا في القضايا الأخرى؟! ألم يقل مثلنا الحكيم: إنك لا تجني من الشوك العنب؟! ثم ألم يقل مصلحنا الحكيم: فاقد الشيء لا يعطيه؟! ثمّ ألم يقل الإمام الجيلاني رحمه الله تعالى: لا يقود الناس أعمى إنما يقود الناس بصير!!
- فإذا كانت الطفولة البريئة قد ضاعت في زيارة بايدن فهل ستحظى بنصاب العدل والقسط مفردات قضية فلسطين التي طوت قرنا من الزمن، ودخلت في قرن آخر؟! ولذلك ما عدنا بحاجة إلى ألمعيّ سياسي حتى يميط لنا اللثام عن حقيقة بايدن!! إذ أن بايدن هو بايدن، وهو كما قال عن نفسه: ليس ضروريا أن أكون يهوديا حتى أكون صهيونيا!! فهو بايدن الصهيوني قبل أن يكون بايدن رئيس أمريكا، وليس بعيدا عن سلفه ترامب، وحال شعبنا الفلسطيني معهما كقول الحكيم: كالمستجير بالرمضاء من النار!!
- ولذلك لا داعي للأسف على زيارة بايدن التي لم تحمل إلا السراب أصلا!! ويبقى المطلوب من شعبنا الفلسطيني التمسك الدائم بالثوابت الإسلامية العروبية الفلسطينية حتى يأتي أمر الله، بعيدا عن اليأس والإحباط، وبعيدا عن التفريط والتخاذل، وبعيدا عن التسيب والتفكك، عسانا أن نكون ممن قال فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم)، ثمّ لا أملك إلا أن أقول ساخرا في ختام هذه المقالة: حتى الطفولة يا بايدن!!