ليست هذه المرة الأولى التي تقر بها محاكم الاحتلال الإسرائيلية بمنح اليهود حق أداء صلاة تلمودية في الحرم القدسي الشريف، فتواطؤ القضاء الإسرائيلي في تشريع العدوان على المقدسات الإسلامية بات واضحاً، وفق مخططات إسرائيلية متدرجة تقودها الحكومة اليمينية المتطرفة في سبيل تهيئة الرأي العام لإقامة ما يسمى “الهيكل المزعوم”.
ففكرة صلاة اليهود بالمسجد الأقصى أقرت 6 مرات على الأقل، مروراً بعام 2010 و2011 و2013 و2017 و2020 و2021 وصولاً إلى العام الجاري عام 2022، وذلك عبر العديد من المحاكم الإسرائيلية على مختلف مسمياتها، ومنها على مستوى المحكمة العليا، ولم يجرمها الاحتلال في كل تلك السنوات بحكم أن أداء الصلوات “الصامتة” هو حق من حقوق اليهود حسب زعمهم.
في السادس من أكتوبر للعام 2021 أقرت محكمة الصلح الإسرائيلية منح المستوطنين حقاً في أداء “صلوات صامتة” في باحات المسجد الأقصى المبارك، وما لبثت أن أعادت إلغاء القرار في الثامن من الشهر ذاته، تحت وقع تهديدات المقاومة وحالة الغليان التي أعقبت القرار من قبل المقدسيين.
آنذاك اضطر الاحتلال للتراجع الشكلي والملتف عن قرار محكمته القاضي بشرعنة الصلاة التلمودية؛ خوفًا من انفجار الوضع مجددا في الأراضي الفلسطينية أو الانجرار إلى مواجهة جديدة مع المقاومة في غزة عقب معركة سيف القدس، ومن ثم حدوث تفكك في حكومة بينيت الهشة.
الباحث والمختص في شؤون القدس زياد ابحيص قال في حديثه إلى “معراج”: “إنه منذ بدء الاحتلال محاولاته فرض الإحلال الديني في المسجد الأقصى، واليمين الصهيوني يمضي بمنهجٍ متدرج فيفرض الوقائع خطوة بخطوة، لعله يراكم في المحصلة تغييرات كبرى في الأقصى، وبمجرد تحقيق أي خطوة فإن نشطاءه يمضون فوراً إلى السقف التالي للبناء عليها وتحويله إلى مكتسب ثابت يجري الصراع على ما بعده وليس عليه”.
في كل مرة كانت محاكم الاحتلال تتعامل فيها مع قضية الصلوات التلمودية، كانت ترسي قاعدة مهمة ألا وهي أنه من حق اليهود الصلاة طالما كانت “صامتة”، وتفرض عليهم العقوبات إذا ما خالفت شرط “الصمت”، لكن الفارق هذه المرة أن المحكمة الإسرائيلية أزالت أمر الإبعاد بحق المستوطنين اليهود الذين قاموا بـ “سجود ملحمي” والذي يعتبر ضمن طقوس الصلوات العلنية وبذلك فهي تقدمت خطوة إلى الأمام عبر إرسائها لقاعدة جواز صلاة اليهود كيفما كانت صيغتها.
وأشار ابحيص إلى أنه وفي سياق هذا المنهج، بادر حاخام من جماعات الهيكل صباح اليوم الاثنين إلى “السجود الملحمي” وقراءة صلاة “الشماع” بصوت عالٍ إلى الشرق من سبيل الكأس، أمام المسجد القبلي، ساعياً إلى تحويل الاهتمام ليصبح حول مكان فرض هذه الطقوس، وليس حول الطقوس التوراتية بذاتها، وقد حرصت شرطة الاحتلال على إخراجه من الأقصى بمنتهى اللطف لأنه أدى تلك الطقوس في مكان محرج لها، وليس لأنه خالف القانون فجاء ذلك على سبيل أمنه وحمايته وليس على تطبيق القانون.
وتابع ابحيص: “المراقب من بعيد يرى أنه بعد ما كان الاحتلال يحاول تثبيت ما يسمى بحق اليهود في دخول المسجد الأقصى والذي استغرق 15 عامًا منذ عام 2000 وحتى 2015، انتقل إلى مرحلة جديدة في الصراع على تثبيت “أحقيتهم في أداء الصلوات” والتي أقرت بعدة أشكال بدءً من عام 2017 حين أقرت المحكمة العليا ذلك الحق، حتى ولو على أبواب المسجد الأقصى مباشرة، مروراً بعام 2019 حين أقر “اتفاق أبرهام” مجدداً ذلك الحق المزعوم باعتبار أن المسجد الأقصى مكان مفتوح للعبادة للجميع، وفي ذات السياق صفقة القرن في ذات العام، وليس انتهاءً بما أقرته محكمة الاحتلال في أكتوبر من العام 2021 وما جرى أمس كخطوة إضافية في ذات المسار.
وفي ذات السياق أشار الباحث والمتخصص في علوم القدس والمسجد الأقصى د. عبد الله معروف إلى أن تنفيذ أكثر من 5 محاولات “سجود ملحمي” في الأقصى صباح اليوم، بينها ثلاثة لم تتم مقاطعتها ولم تتعرض لها شرطة الاحتلال بشيء، حسبما أكدت جماعات الهيكل المتطرفة، يأتي في إطار استثمار هذه الجماعات لقرار محكمة الاحتلال بالأمس الذي يحاول إصباغ المشروعية على “السجود الملحمي” أو الانبطاح الكامل على ثرى المسجد الأقصى المبارك.
وأكد د. معروف أن المقتحمين يحاولون إضفاء المشروعية على أداء الطقوس التوراتية العلنية في المسجد الأقصى المبارك، عبر دخولهم المسجد الأقصى بشال الصلاة التوراتي “طاليت”، في إشارة واضحة لتعاملهم مع فرض الطقوس التوراتي باعتباره “هدفاً منجزاً” والانتقال إلى فرض السقف التالي وهو إدخال أدوات الصلوات التوراتية.
واستدرك معروف: “رغم أن شرطة الاحتلال منعت المتطرفين الصهاينة من الدخول بشال الصلاة التوراتي، إلا أن هذا الفعل يأتي في إطار منهجية تثبيت الطقوس التوراتية، ويفصح عن المسارات المقبلة التي يتطلع اليمين الصهيوني لفتح معركة جديدة عليها، ألا وهي إدخال الأدوات التوراتية التي تشكل جزءً أساسياً لا تتم بعض الصلوات إلا به، بدءاً من شال الصلاة والأهداب مروراً بتمائم الصلاة السوداء ثم طاقية الصلاة وصولاً إلى لفائف التوراة والبوق والشمعدان.
في كل مرة تشرعن فيها محاكم الاحتلال تلك الصلوات باعتبارها حق مشروع عبر قراراتها، كانت وزارة الخارجية الأردنية تدين تلك القرارات، وتصفها بأنها “باطلة ومنعدمة الأثر القانوني حسب القانون الدولي الذي لا يعترف بسلطة القضاء الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما فيها شرقي القُدس، وتشدد على أن الحرم القُدسي الشريف بكامل مساحته مكان عبادة خالص للمسلمين.
ولا نستطيع أن نغفل أثر تهديدات فصائل المقاومة وصمود أهل القدس المحتلة ومناطق 1948، ودورها الكبير في التصدي للمخططات الإجرامية بحق المدينة المقدسة والمسجد الأقصى والاقتحامات، بدءًا من البوابات الإلكترونية ومرورا بمسيرات الأعلام والتردد في اتخاذ قرار بتهجير عائلات الشيخ جراح، وليس انتهاءً بمنع المتدينين المتطرفين من أداء الصلاة الصامتة والعلنية والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد المبارك.