بقلم: خليل العسلي
جلس الحاج عبد الله سعيد في ساعات الظهر المتأخّرة أمام حانوته الذي ورثه أبا عن جد في سوق حارة النصارى داخل البلدة القديمة في القدس، يسرح بناظره تارة في الفضاء الضبابي التي يخيم على هذا السوق وتارة ينظر الى البلاط الروماني الذي بقي قسم منه في شارع حارة النصارى، وكأنه يُخاطب تلك الحجارة التي رصفت الشارع: كم مرّ عليك من محتلٍّ واختفى، وبقيت أنتِ صامدةً في وجه كل الغزاة، كحال أهل المدينة المقدّسة الذين يقاومون بصمت من أجل الهوية والبقاء. قائلا، بعد أن شعر بوجودي: إذا لم يتحسّن الوضع في شهر رمضان المبارك المقبل بعد عدة أسابيع، فإن حالي لا يعلم بها إلا رب العالمين، فأنا منذ ثلاثة أيام لم يدخل حانوتي لا سائح ولا محلي! لذلك يعلّق آمالا كثيرة على الشهر الفضيل بأن يتمكّن فيه من تعويض الأشهر العجاف التي يعيشها طوال العام. استطرد سعيد: تؤكّد جميع المؤشرات أن الأوضاع في القدس الحزينة لن تكون بأفضل حال في الشهر الفضيل… حسبنا الله ونعم الوكيل، فالسلطات الإسرائيلية من أمنية واقتصادية وضريبية تتربّص بنا في كل مكان، وفي كل دقيقة، والمستوطنون الذين احتلوا أسطح الأسواق القريبة ينغصّون حياتنا، ويتصرّف هؤلاء المحتلون، وكأنهم هم أصحاب البلد. الهدف واضح، أن نترك البلدة القديمة.
لا تختلف حكاية صاحب محل الجلود، عبد الله سعيد، كثيرا عن حكاية الحوانيت في البلدة القديمة برمّتها، فهذا الجزء من القدس، والذي هو القلب النابض، وهو أصل الحكاية ونهايتها لا يستيقظ باكرا كحال الأسواق المركزية الأخرى، ولا يسهر طويلا، فعدد ساعات عمل الحوانيت فيه لا تتجاوز الخمس يوميا في فصل الشتاء والبرد، وقد تصل إلى ستٍّ في الصيف، ناهيك عن أن غالبية الحوانيت مغلقة بشكل شبه يومي، بل هناك أسواق لا تفتح أبوابها إلا في أيام الجمعة وجزء من أيام السبت، كحال سوق الخواجات وسوق القطانين وغيرهما، حتى أن الغالبية العظمى من محالّ سوق اللحامين الشهير مغلقة طوال أيام الأسبوع.
أصبح المشهد العام في أزقة البلدة القديمة استيطانيا بالأساس، فقد بات مشهد المستوطنين وأولادهم يلعبون في الأزقة ويسرحون ويمرون بدراجاتهم الهوائية مألوفا، بينما اختفى مشهد الأطفال المقدسيين، إما تجنبا لهؤلاء الغزاة ومؤسّستهم الأمنية الداعمة لهم، أو لأن قسما قد هجر من البلدة القديمة، حيث يتّضح أن هناك تناقصا في عدد الفلسطينيين داخل البلدة القديمة من القدس، والذي كان قد تجاوز 35000 نسمة إلى اقل من هذا العدد ببضعة آلاف في الأعوام القليلة الماضية.
يشهد الحيز العام في البلدة القديمة من القدس هجمة إسرائيلية غير مسبوقة، بغرض فرض الرواية اليهودية، وطرد الرواية الأصلية، فبعد الاستيلاء على المشهد والرواية في باب الخليل، وصل الزحف إلى باب الجديد، وهو المدخل إلى حارة النصارى، حيث نشهد تحوّلات كبيرة واستثمارات أكبر تقوم بها بلدية القدس، من أجل جعله جزءا من الرواية الإسرائيلية للمدينة، وقد نجحت بذلك بصورة كبيرة، فأصبح الزبون شبه الدائم هناك اليهودي الذي يريدون أن يُرى في هذا المكان جزء من حيزه العام الخاص به، على حساب أهل المدينة، كما أن الزحف التوراتي وإحلال الرواية الإسرائيلية محل الرواية الفلسطينية يتسلل شيئا فشيئا نحو الأسواق وفوقها (العطارين، اللحامين، الخواجات، صبرة، وأجزاء من سوق حارة النصارى)، حيث تعمل جمعية يهودية كندية استيطانية على أخذ الموافقات الكاملة من السلطات من أجل إقامة المطاعم والمقاهى فوق أسطح الأسواق في البلدة القديمة، ليكتمل الاستيلاء على الحيز والفضاء المقدسي. وهكذا، ما يجرى من عزوف عربي محلي إسلامي مسيحي عن البلدة القديمة وأسواقها يقابله إقبال كبير من المستوطنين سيؤدّي إلى السيطرة على الحيز، وإيجاد هوية جديدة للمدينة، ورواية تتناسب مع سياسة الإحلال التي تمارسها (إسرائيل)، بهدوء وبكل وحشية، بحق المدينة وأهلها، حيزها وهويتها.
وقبل أن نخرج من الحانوت، الهادئ الوادع مثل صاحبه الحاج عبد الله سعيد، قال: “رغم هذه الأوضاع الصعبة التي تبدو مستحيلة، إلا أنني لن أتخلى عن نسمة هواء في البلدة القديمة، فعندما أغادرها أشعر بالاختناق. يا بني، هنا عشنا وهناك لعبنا، وهنا شهدنا رخاء وسعادة، وبالتالي إننا هناك باقون، حتى بعد موتنا ستدفن أجسادنا بمحاذاة أسوار القدس، وأرواحنا في أزقّة البلدة القديمة من القدس.