لا تكتفي سلطات الاحتلال خلال فترة الأعياد اليهودية باقتحامات المسجد الأقصى المبارك وتدنيس المقدسات الإسلامية فحسب، بل تنتهز الفرصة في كل عام لتشدد الخناق على مدينة القدس المحتلة وأهلها في كافة مناحي حياتهم، فنرى المدينة تتحول إلى ثكنة عسكرية مغلقة، وتسود بها حالة من الحصار الشامل، لإتاحة المجال أمام المستوطنين للوصول للأقصى وتنفيذ اقتحاماتهم وطقوسهم اليهودية التلمودية.
جزء كبير من هذه التعزيزات والاستعدادات يهدف من خلالها الاحتلال إلى حماية المستوطنين وتأمينهم ومنع وقوع أية مواجهات في البلدة القديمة، أو وسط المدينة، أو الطرق التي سيسلكها المستوطنون، ويبقى المستهدف الوحيد بهذه التضييق هو المواطن المقدسي.
رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد ناصر الهدمي أكد في حديث خاص لـ “معراج”، أن إجراءات الاحتلال في فترة الأعياد اليهودية وبالأخص “عيد الغفران” تؤثر بشكل كبير على حياة المقدسيين، كون الاحتلال يغلق الطرقات الرئيسية في المدينة ويمنع المقدسيين من التجول، مما يؤدي لأزمة مشهودة تتمثل بتعطيل كافة مناحي الحياة وشلل يطال الحركة التجارية والتعليمية أيضا.
وأوضح الهدمي أن كل ما يحدث في المدينة المقدسة بشكل متزامن مع هذه الفترة، يعبر عن أن الاحتلال يضرب بعرض الحائط حقوق المقدسيين ويفرض عليهم نمط حياة معين ينسجم متطلبات أعياده، الأمر الذي يؤثر على حياتهم بشكل ظالم، مضيفا: “مالنا ومال هذه الأعياد التي لا تمت لنا ولا لوطننا ولا لديننا بأي صلة، وإنما جاءت مع هذا المحتل الغاصب وستذهب معه بإذن الله”.
وشدد الهدمي على أن هذه الممارسات التي يتعدى بها الاحتلال على حقوق المقدسيين تعبر عن سياسته العنصرية وتكشف زيف ديمقراطيته، مؤكداً على أن هذا التنغيص الذي يمارسه على أهل القدس بتحويلها إلى سجن كبير، سينتهي في يوم من الأيام وسيزول بزوال هذا الاحتلال.
تعطيل للعملية التعليمية
وعلى صعيدٍ آخر، نرى أن العملية التعليمية ليست بمعزلٍ عما يحدث في المدينة، بحكم أنها أحد الممارسات اليومية التي يقوم بها المقدسيون وأبناؤهم، فنجد أن الإغلاق يسود كافة المدارس في مثل هذه الأيام، وحول أسباب هذا التأثر يقول الناشط المقدسي في مجال التعليم بلال عبد ربه لـ “معراج”، إن هناك عاملين مهمين لهذا الشلل الذي يصيب العملية التعليمية في القدس، الأول يتعلق بالترابط الجغرافي الكبير بين المدن والبلدات المقدسية والمستوطنات والأحياء اليهودية، وعلى إثر ذلك يقوم الاحتلال بإغلاق كافة المداخل والمخارج لهذه البلدات، وبالتالي قطع طريق وصول الطلبة والمعلمين إلى مدارسهم ومؤسساتهم.
وأضاف عبد ربه: “العامل الثاني يتمثل بازدياد ازدحام الطرقات بسبب توافد أعداد كبيرة جدا من المستوطنين لإحياء هذه الأعياد في منطقة حائط البراق والبلدة القديمة والمسجد الأقصى، مما يؤثر على سير العملية التعليمية بشكل عام، ناهيك عن تخوف الأهالي من ناحية أمنية على أبناءهم من اعتداءات المستوطنين التي من الممكن أن تطالهم في هذه الفترة تحديدا”.
وفي ذات السياق أشار الناشط المقدسي وعضو مجلس أولياء الأمور في مدارس القدس طارق العكش إلى أن الطلبة في القدس اعتادوا على أن تغلق المؤسسات التعليمية والمدارس أبوابها في مثل هذا اليوم من كل عام، فالمقدسي يضطر اضطرارا لأن يبقى حبيس منزله بسبب الطوق الأمني والعسكري الذي يفرض على المدينة ويقطع أوصالها.
وتساءل العكش قائلاً: “شهدنا أن الحضارة الإسلامية في تاريخها حكَمت العديد من الأقليات على مدار العصور، ورغم كونها الحضارة السائدة والحاكمة للكثير من الأقليات، لم تجبر أمة أو ديانة أخرى قط على تغيير نمط حياتها بسبب أعيادِ المسلمين أو مناسباتهم، فلماذا تعطَّلُ حياتنا، ولماذا تُغلقُ أحياءنا العربية بكاملها، فلا نستطيع التجول ولا ممارسة حياتنا بشكلها الطبيعي على كافة الأصعدة، واستدرك قائلاً: “هذا أسلوب من أساليب التهويد التي تنتهجها دولة الاحتلال”.
ازدياد في وتيرة الاعتقالات
ومن جانبٍ آخر، أوضح رئيس هيئة أهالي الأسرى المقدسيين أمجد أبو عصب لـ “معراج”، أن وتيرة الاعتقالات في القدس ترتفع بالتزامن مع الأعياد اليهودية، فنجد أن سلطات الاحتلال اعتقلت 181 فلسطيني وأبعدت 86 آخرين خلال شهر سبتمبر، غالبيتهم في الثلث الأخير تزامنا مع التشديدات الأمنية التي فرضتها لتأمين هذه الأعياد، وهذه الاعتقالات استهدفت أسرى محررين ومرابطين ومصلين بالأقصى.
وتابع: “الاحتلال يستهدف في هذه الفترة بالتحديد كل من يحاول الدفاع عن المسجد الأقصى، فشاهدناه يعتقل شخصا أمّ المصلين في صلاة الضحى بالأقصى صبيحة “يوم الغفران” رغم أنه لم يؤثر على الاحتلال من الناحية الأمنية، فهو لم يقاوم ولم يضرب حجرا ولا سكيناً وإنما بتواجده أثبت الهوية الإسلامية لهذا المكان”.
وشدد على أن سلطات الاحتلال تستهدف في مدينة القدس أصحاب الفضيلة والأخلاق العالية والمصلحين والشخصيات الإسلامية المؤثرة، ولا تريد لهذه المدينة سوى أن يشيع فيها الفلتان الأمني والجريمة والمخدرات والخلافات العائلية والمجتمعية، حتى يسهل اختراقها وتدميرها، سعياً لتحقيق الهدف الأعظم وهو هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم.
وأكد أبو عصب على أن نظرة الاحتلال لقضية السيادة تجعله يستهدف أي شخص يعطي هوية عربية أو إسلامية لهذه المدينة وإن كان بنشاط تطوعي خيري مجتمعي، فنجد أن التهم التي يوجهها الاحتلال للمقدسيين مختلفة تماما عن التهم التي يوجهها لأهالي الداخل أو الضفة الغربية، فهو يعتبر أن مجرد صلاة المقدسي في الأقصى تهمة، والتكبير في ساحات الأقصى أو في الشوارع تهمة، ورفع العلم الفلسطيني تهمة والتوشح بالكوفية أيضا تهمة.
وحول طبيعة التهم التي توجهها محاكم الاحتلال للمقدسيين تزامناً مع هذه الفترة، نوه أبو عصب إلى أن الجهاز القضائي الإسرائيلي هو أحد أذرع الاحتلال وبطبيعة الحال ما يصدر عنه سيعبر حتماً عن سياسة وعنصرية الاحتلال، فعلى سبيل المثال نجد أن التهم تكون: “الانتماء إلى تنظيم إرهابي أو خارج عن القانون” ويقصد بها تنظيم المرابطين والمرابطات في الأقصى، أو “تعطيل عمل الشرطي” ويستهدف بهذه التهمة أي شخص يتلقى الضرب من قبل شرطة الاحتلال، ناهيك عن تهمة “الاعتداء على شرطي في فترة عمله” والتي يستهدف بها أي شخص أو يقوم بالدفاع عن نفسه أو يرفع يده مثلا ليمسك بأداة يعتدي بها الشرطي عليه، ولا ننسى تهمة “إثارة الشغب وتعريض أمن المستوطنين للخطر” وهي تهمة شائعة يقصد بها أي شخص يؤم المصلين أو يقوم بالتكبير في الأقصى أو ينظف ساحات الأقصى وهكذا.
استهداف متعمد للصحفيين
وعلى صعيد الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيين خلال هذه الفترة تحديداً بحكم أن التواجد في المسجد الأقصى هو هدفهم الأول استجابة لواجبهم المهني وأداءً لعملهم الذي يقتضي تغطية الأحداث ومتابعتها على مدار الساعة، تقول الصحفية منار الشويكي لـ “معراج”، اعتداءات الاحتلال التي ترافق الاقتحامات كبيرة، وإن لم نعمل على توثيقها فلن يكون هناك دليل على ارتكابها، ومن هذا الباب نجد أن الاحتلال بقوم بالتضييق والاعتداء المباشر علينا كصحفيين على وجه الخصوص.
وأوضحت الشويكي أن المضايقات والاعتداءات على الصحفيين تبدأ عند أبواب الأقصى، عندما يقوم عناصر الاحتلال بتفتيش الصحفي ومصادرة أدواته ومعداته واحتجاز هوياته، لذلك تجد أن أغلب الصحفيين لا يفصحون بالمطلق عن طبيعة عملهم وسبب دخولهم إلى الأقصى، لكي لا يتعرضوا لهذه الممارسات التي تستهدفهم على وجه الخصوص، ثم تمتد المضايقات إلى الداخل بمحاولة منع عناصر الاحتلال لأي شخص من التصوير عبر هاتفه المحمول ومحاولة إبعاده عن مسار المستوطنين والمقتحمين لأبعد نقطة .
وأضافت الصحفية الشويكي، “تتردد على ألسنة عناصر شرطة الاحتلال عبارة “أنت تشكل خطراً على أمن المستوطنين في المكان”، ومن المفترض والطبيعي أن يكونوا هم من يشكلون خطراً علينا، فنحن مسلمون ونتواجد في مكان إسلامي مقدس، متسائلة “فمن هنا الذي يعتدي على الآخر ويهدد أمنه؟!”
وتابعت: “الجدير ذكره أن قوات الاحتلال تفرغ عناصر من الشرطة لتصوير الصحفيين الذين يقومون بتوثيق أي انتهاك يجري في الأقصى، وإن حدثت أية إشكالية يتم استدعاؤنا بسهولة وتوثيق تواجدنا وقيامنا بالتصوير أو الرصد، لكي لا يكون هناك مجال للإنكار، ويتم على إثر ذلك إما الاعتقال أو تسليمنا قرارا يقضي بالإبعاد أو الحبس المنزلي”.
وتستدرك قائلة: “الاعتداء على الصحفي بالاعتقال أو الإبعاد أو الحبس المنزلي أو حتى منع دخوله إلى المسجد الأقصى أو موقع الحدث، يؤثر بشكل كبير على غاية وجود الصحفي في هذه المنطقة وعمله وتعاقده مع أية مؤسسة إعلامية، لافتةً إلى الأمر كان أكثر صعوبة في السابق، وفي بعض الحالات كان يؤدى لخسارة الصحفي عمله، أما الآن فأستطيع القول بأن المؤسسات الإعلامية أصبحت أكثر إدراكاً بشكل نسبي لطبيعة الاستهداف والتقييد الذي يؤثر على الصحفيين في الميدان، خصوصا في المسجد الأقصى”.
ورغم أن سلطات الاحتلال تعدُّ المناسبات والأعياد اليهودية من كل عام فرصة جديدة لمحاولة فرض سيطرتها على القدس المحتلة كما فرض التقسيم الزماني والمكاني على المسجد الأقصى المبارك، غير أنها تتفاجئ في كل مرة بالوعي المتزايد لدى أبناء الشعب الفلسطيني وتصديهم للمخططات التهويدية بكل الطرق المُتاحة.