معراج – القدس
تُعد معركة القسطل محطة محورية في تاريخ فلسطين، جرت أحداثها خلال حرب 1948 (النكبة)، وشكلت جزءًا من العمليات العسكرية التي نفذتها العصابات “الإسرائيلية” ضمن خطة “نحشون”.
كانت معركة القسطل جزءًا من خطة عسكرية “إسرائيلية” تهدف إلى السيطرة على مدينة القدس. ويذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي” الأسبق ديفيد بن غوريون في كتابه “بعث إسرائيل” أن عملية “نحشون” بدأت بالسيطرة على الطريق المؤدي إلى القدس وقرية بيت محسير، وانتهت بالسيطرة على القسطل، التلة الاستراتيجية القريبة من المدينة.
خيانة عربية ودعم يهودي
في مطلع مارس/آذار 1948، سيطرت القوات “الإسرائيلية” المسلحة على قرية القسطل بعد هجوم شنّته قوات كبيرة من عصابتي “البلماخ والهاغانا”، حيث دارت معركة قصيرة مع سكان القرية انتهت بتهجيرهم بالكامل.
عقب السيطرة عمدت القوات “الإسرائيلية” إلى تحصين القرية باستخدام الأسلاك الشائكة، والحديد، والإسمنت، وزرع الألغام، بالإضافة إلى تجهيزها بالعتاد الحربي والمتفجرات.
ورغم تعليمات القائد العام البريطاني التي تحظر وجود مظاهر عسكرية أو مسلحين على طريق القدس-يافا، لم يتخذ الجيش البريطاني أي إجراء لمنع احتلال القرية أو تهجير سكانها، بينما طُبّقت هذه التعليمات بصرامة على الفلسطينيين فقط.
وفي نهاية مارس/آذار 1948، سافر قائد كتيبة الجهاد المقدس عبد القادر الحسيني إلى دمشق للتواصل مع اللجنة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية، والمكلفة بالإشراف على المعارك في فلسطين.
عرض عبد القادر الحسيني على مسؤولي اللجنة العسكرية تفاصيل الوضع الحرج في القدس والمخاطر المحيطة بها، وطالب بتزويد قواته بأسلحة تعادل ما تمتلكه القوات “الإسرائيلية”، بما يتيح لهم الدفاع عن المدينة بفعالية.
أثناء وجود عبد القادر الحسيني في دمشق، وصله نبأ الهجوم “الإسرائيلي” الكبير على القدس واحتلال قرية القسطل، التي تُعد موقعًا استراتيجيًا يسيطر على الطريق الرابط بين القدس ويافا.
ورغم عرضه الوضع الملح وخطورة الموقف، رفضت اللجنة العسكرية العربية تزويده بالأسلحة والذخائر اللازمة لاستعادة القرية، مما أثار غضبه. وصرخ الحسيني قائلاً: “أنتم مجرمون، سيسجِّل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين. سأحتل القسطل، وسأموت أنا وجميع إخواني المجاهدين.” ثم توجه إلى مرافقه قاسم الريماوي قائلاً: “هيّا نعود إلى فلسطين لنموت فيها كما عزمنا، نستشهد أو ننتصر.”
استجاب الفلسطينيون لدعوة الحسيني، فجمعوا حوالي 300 مقاتل من مختلف القرى والمدن، بقيادة صبحي أبو جبارة، كامل عريقات، إبراهيم أبو دية، عبد الله العمري، حافظ بركات، خليل عنون، وعبد الفتاح درويش.
بدأ الهجوم الفلسطيني على القسطل في 4 أبريل/نيسان 1948، حيث خاض المقاتلون معركة شرسة استمرت ثلاثة أيام.
وعلى الرغم من صمودهم، فقد نفدت ذخائرهم، بينما استمرت عصابات “الهاغانا” في تلقي الإمدادات العسكرية عبر الطائرات، ما أعاق قدرتهم على استعادة القرية بشكل كامل.
سعى قادة معركة القسطل إلى استعادة القرية، مؤكدين أن “القسطل هي القدس”، كما صرح عبد القادر الحسيني. وقد قاد الحسيني الفدائيين في المعركة برفقة رفاقه ومساعديه، وكان من بينهم إبراهيم أبو دية.
دارت معركة عنيفة أسفرت عن إصابة إبراهيم أبو دية و16 مقاتلاً آخرين بجروح خطيرة، فيما كانت الذخائر على وشك النفاد، ما أجبر المهاجمين على التراجع.
ومع ذلك، لم يتوقف الحسيني، فقد تقدم مع بعض رفاقه مرة أخرى واشتبكوا مع القوات “الإسرائيلية”، ما أسفر عن إصابة ثلاثة منهم، وبقي معه مقاتل واحد فقط.
نجح جبش الاحتلال في محاصرة عبد القادر الحسيني، مما دفع الفلسطينيين خارج القسطل للتجمع بحماسة لدعمه.
وصلت التعزيزات من مختلف الفصائل مثل “الجهاد المقدس” و”حراس الحرم الشريف” و”شباب القدس”، بالإضافة إلى المساعدة من أهل الخليل وقُرى الوادي وجيش الإنقاذ.
مرت أيام من القتال العنيف قبل أن يشن الفلسطينيون هجومًا مضادًا، تحت غطاء من القصف المدفعي ونيران الرشاشات. ووصف مراسل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية مشهد الهجوم قائلاً: “تسلقوا المنحدرات الصخرية الوعرة والشديدة الانحدار وهم يطلقون صرخات الحرب.”
يوم 8 أبريل/نيسان 1948، وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، دخلت مجموعة من المجاهدين الفلسطينيين إلى قرية القسطل واستطاعوا استعادتها بعد أن تجمعوا من مختلف المناطق. وقد ظلوا في القرية نحو ست ساعات، واستشهد خلالها القائد عبد القادر الحسيني في المعركة.
ورغم خسائرهم الكبيرة، حيث سقط 350 قتيلًا، وصلت تعزيزات كبيرة من العصابات “الإسرائيلية”، التي أفادت تقارير “الهاغانا” بمقتل عدد من قادتها أثناء انسحابهم.
وفي ليل الثامن وفجر التاسع من أبريل/نيسان 1948، شنت قوات “البلماخ” هجومًا آخر على القرية، وعند اقترابهم منها، فوجئوا بأنها خالية من المجاهدين، الذين كانوا يشاركون في تشييع الشهيد الحسيني في المسجد الأقصى.
وقد طوقت قوات “البلماخ” القرية باستخدام آليات مدرعة لمنع وصول أي تعزيزات، ثم بدأت في اقتحامها، حيث نسفوا البيوت وشرعوا في تهجير السكان، وسقطت القسطل في أيديهم، مما مهد الطريق للسيطرة على القدس.
واستمر الهجوم بالتزامن مع المجزرة المروعة التي وقعت في قرية دير ياسين، والتي لا تبعد أكثر من خمسة كيلومترات عن القسطل.