بقلم/ ماجد الزبدة
أربعة وخمسون سنة مرت على حريق المسجد الأقصى المبارك، تلك الجريمة البشعة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 21/08/1969م مٌدَّعيًا أن تماسًا كهربائيًّا تسبب في اشتعال المسجد، ليتبين لاحقًا أن صهيونيًا أستراليًّا ارتكب هذه الجريمة، إذ أشعل الحريق عن سابق تخطيط، وتسبب في أضرار فادحة طالت أروقة وسقف المصلى القبلي، ومنبر صلاح الدين الأيوبي.
كثيرة هي الشواهد التي تشير إلى أن جريمة إحراق المسجد الأقصى لم تكن جريمة فردية، فمحاولة الاحتلال الادعاء بأن الحريق جاءت نتيجة تماسٍ كهربائي إنما هدفت إلى تبرئة المحتلين من مسؤولية الجريمة، وبعد اكتشاف الفاعل المجرم، حاول الاحتلال مرة أخرى تبرئته بالادعاء أنه مختل عقلي، وهي مزاعم اعتمدت عليها محاكم الاحتلال الصورية لاحقًا في قرارها إطلاق سراح المجرم، وتبرئته من هذه الجريمة المُنكرة.
المشاركة الفاعلة للاحتلال في الجريمة كانت واضحة بقطع المياه عمدًا عن المصلى القبلي ومحيطه، وتباطؤ وصول سيارات المطافئ لإطفاء الحريق، وكأن رغبة الاحتلال كانت إبقاء جذوة الحريق مشتعلة لأطول فترة ممكنة حتى تأتي على كامل المصلى القبلي، وهو الأمر الذي دفع المصلين العزل إلى محاولة إطفاء الحريق بملابسهم، وبعض المياه التي توفرت آنذاك في آبار المسجد الأقصى.
واليوم وبعد مرور أربعة وخمسين سنة على جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك، فإن الحريق لا يزال مشتعلًا، فمحاولات الاحتلال هدم المسجد الأقصى، وتفريغه من المصلين المسلمين لم تتوقف، وما تزال انتهاكاته ضد الأقصى بشتى الأشكال والوسائل متواصلة، بدءًا من محاولات منع المصلين المسلمين من التواجد في المسجد بمواسم الاعتكاف، والاعتداء عليهم مرارًا أمام شاشات التلفاز، وحرمانهم من الوصول إلى بوابات المسجد، ومحاولات وضع كاميرات مراقبة ترصد تحركاتهم داخل المسجد، وبوابات إلكترونية تحول دون وصولهم للصلاة في باحاته، وقرارات الإبعاد عن المسجد التي تطال كل فلسطيني أو فلسطينية يثبت أنه يدافع عن الأقصى ويداوم على الصلاة في باحاته.
استهداف الاحتلال للمسجد الأقصى جزءٌ لا يتجزأ من استهداف الاحتلال لمدينة القدس المحتلة، فعدوانُ الاحتلال على المواطنين المقدسيين وتصاعد انتهاكاته ضدهم بالقتل المتعمد والاعتقال والإبعاد وهدم المنازل، التي بلغت منذ بداية عام 2023م وحتى نهاية مايو الماضي أكثر من “2209” اعتداء بحسب تقرير نشره مركز معلومات فلسطين “معطي”، إنما تهدف إلى تفريغ المسجد الأقصى من المصلين المسلمين، في محاولة إسرائيلية مستميتة لتحويل المسجد إلى كنيس يهودي.
صرخات المسجد الأقصى التي سمعها كل المسلمين عقب إحراقه سنة 1969م ما تزال مدوية حتى يومنا هذا مع تصاعد الاقتحامات اليهودية للمسجد الأقصى، ومحاولات حكومة نتنياهو المتطرفة تطبيق خطة عضو الكنيست المتطرف عن حزب الليكود “عميت هاليفي” التي أعدها بمشاركة عدد من أعضاء حزب الليكود المتطرفين، ونشرها موقع “زمان يسرائيل” العبري مطلع شهر يونيو الماضي، وتقضي بنزع الوصاية الأردنية الهاشمية عن المسجد الأقصى، واستيلاء المحتلين اليهود على المنطقة الوسطى والشمالية من المسجد الأقصى بما فيها “قبة الصخرة” بذريعة أنها شُيدت فوق أنقاض “الهيكل اليهودي” المزعوم، والسماح لليهود باقتحام المسجد الأقصى من جميع البوابات وليس فقط من بوابة المغاربة، وهي خطة تشبه إلى حد كبير ما نجح الاحتلال في تطبيقه بالحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل جنوب الضفة، حيث استولى الاحتلال على المسجد بعد جريمة قتل المصلين المسلمين فجرًا منتصف شهر رمضان من عام 1994م، وبات المسجد مستباحًا لليهود، حيث يُمنع المسلمون من الصلاة فيه أغلب أيام السنة منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا.
إن استباحة المستوطنين الصهاينة للمسجد الأقصى المبارك، وتصاعد اقتحاماتهم اليومية لباحات المسجد، التي بلغت في شهر يوليو الماضي “6558” مستوطن، إنما هي تطبيق فعلي لمخطط التقسيم الزماني للمسجد، ومحاولة حثيثة لتطبيق مخطط التقسيم المكاني للمسجد بين المسلمين الفلسطينيين أصحاب الأرض المدافعين عن ترابها ومقدساتها، وبين اليهود المحتلين الوافدين من شتى بقاع الأرض، الذين يواصلون انتهاكاتهم العلنية لمقدسات المسلمين، وحقهم في الصلاة في المسجد الأقصى المبارك.
من ناحية أخرى، فإن طقوس “السجود المحمي”، والصلوات التلمودية الجماعية التي بات المقتحمون الصهاينة يجاهرون بها نهارًا ويؤدونها بشكل جماعي أمام الكاميرات، إنما تهدف إلى ترويض المسلمين في المنطقة العربية لتقبل هذه الحالة الشاذة داخل باحات المسجد الأقصى المبارك، وما يشاع حول استجلاب المحتلين اليهود لبقرات خمس من الولايات المتحدة، والإعلان أنها مقدمة لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، إنما تهدف إلى الترويج لخرافاتهم التلمودية، وجس نبض المسلمين، ومعاينة ردود أفعال الأنظمة الرسمية والشعوب العربية تجاه هذه المخططات الماكرة التي تهدف إلى دفع المسلمين لتقبل مخططات التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.
ختامًا، فإن واجب المسلمين والفلسطينيين على وجه الخصوص في هذه الذكرى الأليمة، هو الذود عن حياض المسجد الأقصى، وبذل الغالي والنفيس للدفاع عنه، وفضح مخططات الاحتلال للنيل من مقدسات المسلمين، أما الأنظمة العربية والإسلامية فإنه يقع على عاتقها واجب فضح مخططات الاحتلال أمام المحافل الدولية، وملاحقة قادة الكيان في المحاكم الدولية، فالصمت على جرائم الاحتلال المتواصلة ضد المسجد الأقصى يعني القبول بهدم المسجد وبناء الهيكل اليهودي المزعوم.