ما بين الحين والآخر تصدر محاكم الاحتلال وسلطاته القضائية جملةً من قرارات “الحبس المنزلي” على فلسطينيين غالبيتهم من الأطفال، تتراوح مدتها ما بين بضعة أيام أو أسابيع، وقد تمتد إلى عدة شهور، وربما تصل في بعض الأحيان إلى عام كامل أو أكثر، والجدير ذكره أن هذه الفترة لا تُحتسب من فترة الحكم الفعلي الذي يصدر لاحقاً بحق الطفل.
يُجبَرُ الطفل خلال فترة الحبس المنزلي بعدم الخروج من المنزل نهائياً، ليس هذا فحسب بل تفرض سلطات الاحتلال القيود على بعض الأماكن والغرف داخل المنزل نفسه، تحجر على الطفل دخولها، وتراقب تحركاته عبرأجهزة تتبع تكون على شكل “سوار إلكتروني” مع GBS يربط في قدم الطفل، ونادراً ما يُسمح له، وفي مراحل متقدمة وبعد أشهر من الحبس المنزلي، بالتوجه إلى المدرسة أو العيادة برفقة الكفيل، ذهاباً وإياباً.
وللحبس المنزلي نوعان: في النوع الأول يبقى الطفل في بيته وبين أفراد أسرته طوال الفترة المحددة وفقاً لقرار المحكمة إلى حين البت في قضيته، أمّا النوع الثاني، فهو الأصعب، فمن خلاله يُبعد الطفل عن بيت الأسرة أو الحي ومنطقة السكن، وقد يكون الإبعاد إلى خارج حدود المدينة، الأمر الذي يشتت العائلة ويزيد من حالة القلق لدى أفرادها.
وعلى المستوى الأسري يعتبر الحبس المنزلي عقوبة جماعية بحق جميع أفراد الأسرة, فهي تخلق حواجز نفسية ما بين الطفل وذويه، فالاحتلال يُجبِر الوالدين على أن يكونا مسؤولين أمام المحكمة على ضمان احتجاز طفلهم في بيته ومنعه من مغادرته ولو بالقوة، وفي حال أراد المغادرة فهم مطالبين بالإبلاغ عنه، وإلا تعرَّضوا للمساءلة القانونية ودفع الغرامات المالية الباهظة، حيث تُجبِر المحكمة أولياء أمر الطفل على التوقيع على كفالة مالية باهظة الثمن لضمان عدم خرق قرار الحبس المنزلي وخروج ابنهم من المنزل.
منصة “معراج” عايشت تفاصيل الحبس المنزلي مع الشقيقين المقدسيين قيس وورد الغول والذان صدر بحقهما قرارات حبس منزلي منذ مطلع العام الجاري، وستستمر حتى الأول من ديسمبر القادم بعد قرار محكمة الاحتلال الصادر في 20 تموز الجاري، والقاضي بتمديد الحبس المنزلي لكليهما.
الاعتقال وظروفه
والدة ورد وقيس السيدة لمياء الغول، قالت لـ “معراج” إن قوات الاحتلال اعتقلت ورد ذو الـ 23 عاماً بتاريخ 18/01/2022 ، واستمر معه التحقيق ٣٤ يوما في زنازين مركز توقيف “المسكوبية” غربي القدس المحتلة، في محاولة لانتزاع اي اعتراف منه في ملفٍ وصف بأنه “سري”، وبعد انتهاء التحقيق لم يسمح “جهاز الشاباك” بنقل ورد من الزنزانة الانفرادية، وأبقى عليه 41 يوماً فيها.
وأضافت: “انهى ورد درجة البكالوريوس في تخصص الحقوق من جامعة عمان الأهلية بتقدير امتياز، ثم عاد إلى أرض الوطن ليلتحق بجامعة بيرزيت كطالب ماجستير في قسم “القانون الخاص” بالعام 2021، وأجرى العديد من الأبحاث العلمية قبلت الجامعة العربية الأمريكية واحدً منها للنشر في مجلتها العلمية الخاصة”.
وتابعت: “أما قيس فهو الصغير المدلل، طالب الثانوية العامة ذو الـ17 عاماً، اعتقلته قوات الاحتلال بطريقة همجية بتاريخ 9/02/2022 بينما كان يجلس مع أصدقائه في الحي، في ذلك الحين اقتحمت عناصر من شرطة الاحتلال الحي وطلبت هوياتهم، وأخبرته بأنه مطلوب واعتقلته في ذات الحين ولم تبلغنا بالاعتقال سوى بعد عدة ساعات”.
ولفتت إلى أن أمر انتزاع قرار بالحبس المنزلي لأولدها كان غاية في التعقيد، واستمر على مدار 5 جلسات متباعدة في محاكم الاحتلال، ناهيك عن التعرض للتحقيق من قبل ضباط السلوك وهم جزء من “جهاز الشاباك” ومهمتهم كتابة تقرير يوصي بالحبس المنزلي للمعتقلين، إضافةً لتحديدهم عنوان السكن واضرارهم لاستئجار منزل جديد في منطقة بيت حنينا لكي يحصلوا على موافقة -عنوان السكن- وغيرها من التعقيدات.
وأوضحت السيدة لمياء والدة ورد وقيس بأن سلطات الاحتلال قامت بالتفريق بين الأخوين وأصبح كل منهما معزول في مكان بعيد عن الآخر، وهذا كان شرط من شروط قبول طلب الحبس المنزلي، ليس هذا فحسب بل حرمت هي أيضاً من رؤيته طفلها قيس باستثناء أوقات انعقاد المحاكم يسمح لها برؤيته عبر نافذة صغيرة يسمونها “حانوت” ولوقت قصير جداً.
شروط الحبس المنزلي
وحول شروط الحبس المنزلي المفروضة على ولديها لفتت السيدة لمياء إلى أن سلطات الاحتلال تقيد الطفل بمساحة محددة من المنزل لا يجوز له بأي شكل من الإشكال تجاوزها وقد يصل الأمر إلى حرمانه من دخول بعض غرف أو مرافق المنزل ذاته، وتراقب كافة تحركاته عبر سوار إلكتروني مربوط في القدم.
وتابعت: “لقبول طلب الحبس المنزلي يجبرنا الاحتلال على إحضار 5 كفلاء لكل طفل، ناهيك عن دفع كفالات مالية عند الخروج للحبس المنزلي، والاقرار بدفع تأمين مالي لكل كفيل يتم استحقاقه في حال أخل أحد الأطفال بشروط الحبس المنزلي المفروضة”.
واستدركت: “تقوم سلطات الاحتلال بالتفتيش بشكل مفاجئ في أي وقت وبدون سابق إنذار على الطفل للتأكد من خضوعه لشروط الحبس المنزلي، ويجب أن يكون أحد الكفلاء الخمس متواجد مع الطفل وإلا يضطر الكفلاء الخمس دفع مبلغ التأمين وإرجاع الطفل مجدداً إلى السجن”.
ولفتت والدة قيس وورد إلى أن هذه الأمر مرهق ومؤذي نفسياً بشكل كبير على الطفل والأهل في آن واحد، لما يستوجبه من القيام بدور الحارس أو السجان على الطفل من ذويه وداخل جدران منزله.
تكاليف مادية مرهقة
والجدير ذكره بأن محكمة الاحتلال تجبر في بعض الحالات الأهل على أن يكون الحبس المنزلي للطفل خارج نطاق سكنه، مما يضطر العائلة في كثير من الحالات إلى استئجار منزل كامل له ليكون له سجن، وبالتالي مزيداً من الأعباء المالية على كاهلهم، أو قد يتم قضاء فترة الحبس المنزلي في بيت أحد أقربائه لمدة زمنية طويلة بشكل يُشَكِّل عبئ وحَرَج على جميع الأطراف وهذا ما نوهت له والدة ورد وقيس خلال حديثها.
وفي هذا السياق أيضاً أشارت والدة ورد وقيس بأن سلطات الاحتلال تفرض كفالات مالية باهظة على كل طفل يتم إصدار قرار بالحبس المنزلي بحقه، وقد بلغت 10 آلاف شيكل لكل من ورد وقيس، ناهيك عن مبلغ التأمين الذي تفرضه سلطات الاحتلال على كل كفيل من الكفلاء، في حال الإخلال بشروط الحبس المنزلي والذي يبلغ 25 ألف شيكل لكل كفيل وعددهم 5 كفلاء ما مجموعه 125 ألف شيكل.
ويرى مختصون بأن دولة الاحتلال تمادت في استخدام عقوبة الحبس المنزلي، ولا سيما بحق الأطفال الفلسطينيين في القدس المحتلة ومن هم دون 14 عاماً، وجعلت من هذه العقوبة سيفاً مسلطاً على رقاب الفلسطينيين، وسياسة دائمة في تعاملها مع المقدسيين، وإجراءاً ثابتاً ضمن محاكماتها، الأمر الذي حوّلها إلى ظاهرة مقلقة ما زالت مستمرة.
وتفيد الإحصاءات الرسمية بأن سلطات الاحتلال اعتقلت خلال العام الماضي نحو 1300 طفل فلسطيني، منهم 750 طفلاً من القدس يشكلون ما نسبته 57.7٪ من مجموع اعتقالات الأطفال، كما تم اعتقال نحو 450 طفلاً فلسطينياً منذ مطلع العام الجاري، منهم 353 طفلاً من القدس يشكلون الأغلبية العظمى وما نسبته 78.4٪ من إجمالي الأطفال الفلسطينيين الذين تعرضوا للاعتقال هذا العام.
وما زالت سلطات الاحتلال تحتجز في سجونها ومعتقلاتها قرابة 170 طفلاً، بالإضافة إلى عشرات آخرين تجاوزوا سن الطفولة وهم داخل الأسر ولعل أبرزهم الأسير أحمد مناصرة الذي يعاني أوضاعاً صحية صعبة جراء ما تعرض له من تعذيب وعزل انفرادي وضغوط نفسية.