تستمر السياسة الإسرائيلية الاستيطانية بالتفشي داخل أروقة مدينة القدس المحتلة وبلداتها وحاراتها، عبر سلسلة من المشاريع التهويدية الاستيطانية التي تهدف إلى إحلال اليهود بدلا من الفلسطينيين والعرب، وتغيير شكل المدينة ديموغرافياً عبر استهدافها المستمر للحجر والشجر.
شهدت القدس المحتلة في الآونة الأخيرة سلسلة من المشاريع الاستيطانية التي تعتبر الأخطر من نوعها، هدفت إلى منع أي تواصل جغرافي بين التجمعات الفلسطينية شرق القدس، ناهيك عن شبكات من الطرق المعقدة التي تخترق أراضي المدينة وتشوه معالمها الأثرية والمقدسة.
يتصدر المشهد اليوم مخطط استيطاني جديد أعدّته بلدية الاحتلال الإسرائيلي، يستهدف المشهد العام لمدينة القدس والمسارات المؤدية إلى البلدة القديمة والمسجد الأقصى، عبر استهدافه لحي المصرارة المقدسي تحديداً، من خلال فصله عن منطقة باب العامود وباقي الأحياء الشرقية في مدينة القدس المحتلة، في خطة فصل مستوحاة من الأسوار التي كانت تفصل غربي القدس عن شرقيها بعد النكبة عام 1948.
حي المصرارة وتاريخه
يقع حي المصرارة في القسم الشمالي من القدس المحتلة، وتحديداً شمالي حي الشيخ جراح على الطريق الموصلة إلى مدينة رام الله، جميع سكان هذا الحي هم من العرب، ويجاوره حي مياشورم اليهودي.
تأسس حي المصرارة من قبل السكان الفلسطينيين المسيحيين من الطبقة العليا في أواخر القرن التاسع عشر، كجزء من «الخروج من الجدران»، حيث بدأ الناس يعيشون خارج مدينة القدس القديمة، وخلال حرب فلسطين، طرد الفلسطينيون أثناء القتال ولم يُسمح لهم بالعودة إلى منازلهم، وظل المصرارة على الجانب الإسرائيلي من الحدود بين إسرائيل والأردن.
البيئة العمرانية في حي المصرارة هي شهادة حية على تنوعها – وتنوع القدس بشكل عام – حيث يمكن تقسيمها إلى ثلاث فترات عامة، أولاها هي المرحلة العربية، حيث تم بناء قصور كبيرة وفاخرة من قبل الأثرياء العرب الذين حاولوا الهرب من الاكتظاظ في البلدة القديمة خلال أواخر القرن 19.
وثاني هذه المراحل بدأ مع حرب 1948، حيث هجر السكان من منازلهم وشهد الحي صورًا من البطالة والفقر والإهمال، أما ثالثها فبدأ في الثمانينات، وعكس نشاطًا متزايدًا نتيجة لبرنامج بلدية القدس لتحسين مظهر الحي، فتم اعتماد لوائح التطوير التي تهدف إلى استعادة مجد الحي السابق.
مخططات هذا المشروع
يسعى هذا المشروع الاستيطاني لبناء مجمع وفندق وموقف للسيارات والحافلات تحت الأرض، وواجهات تجارية على طول مسار خط سكة القطار الخفيف لتغيير شكل المنطقة وإعادة توسيع النفق وشبكة الطرق من الشيخ جراح شمالًا حتى باب الخليل غربًا مرورًا بالمصرارة والباب الجديد.
ويكمن الأخطر الأعظم في أن هذا المشروع سيلتهم أراضٍ وقفية في قلب القدس المحتلة، 70% منها أوقاف إسلامية، و20% أوقاف تابعة للكنائس والأديرة المسيحية، فيما تعود ملكية 4 إلى 5% من إجمالي مساحة المناطق لمواطنين وتجار مقدسيين، والبقية أراضٍ أميرية كانت تتبع للإدارة الأردنية.
وسيغلق هذا المخطط إن تم شارع السلطان سليمان ويُحوّله إلى شارع مشاه تمهيدًا لفصله عن منطقة المصرارة والباب الجديد، كمقدمة لمشروع ضخم مدمر للحركة التجارية داخل البلدة القديمة ولمئات التجار في شارعَي السلطان سليمان وشارع صلاح الدين وانعكاساته ستكون على باقي أسواق المدينة والحركة التجارية فيها.
وبحسب مركز التعاون والسلام الدولي بالقدس فإن هذا المشروع سيؤدي لخفض المساحات المخصصة للتجار الفلسطينيين بثلثين، وبناء 50 ألف متر مربع مواقف عامة، و25 ألف متر مربع فنادق استيطانية ضمن ما يُروّج له “ميدان شخيم”. وبحسب المخطط سيتم توسعة النفق، فوق شريط واسع من الأراضي المقدسية، بمساحة جديدة تصل إلى كيلومتر، انطلاقًا من محطة الحافلات والسيارات الوحيدة المقابلة لباب العامود، وصولًا إلى حيّي واد الجوز والشيخ جراح في البلدة القديمة.
أثره على المدينة المقدسة
الباحث المختص في الشأن المقدسي عماد أبو عواد أكد خلال حديثٍ خاص لـ “معراج” أن الاحتلال يسعى لجعل هذه المشاريع تمثل نموذجاً للسياح وليهود العالم، هاداً من وراء ذلك لاستقطابهم وتشجيهم على مزيدٍ من الهجرة اليهودية لفلسطين ولمدينة القدس تحديداً، علاوةً على سعيه لجعلها أداة تضييق واضحة على الفلسطينيين في المدينة وبالتالي دفعهم للهروب خارج أسوار المدينة لتبقى الأغلبية ديموغراياً داخل الأسوار هي أغلبية يهودية.
وأشار أبو عواد إلى أن سلسلة المشاريع الاستيطانية الصهيونية في مدينة القدس متواصلة وفق رؤية إستيطانية تهويدية واضحة المعالم وهناك إصرار على تنفيذ هذا المشروع، لافتاً إلى أن إسرائيل حتى في ظل كل أزماتها لا تُدِر ظهرها لمشاريع الاستيطان بل تسعى لوضعها دائماً على قائمة أولوياتها.
وأوضح أبو عواد أن مخاطر هذا المشروع تكمن في أمرين أساسيين، الأول هو السعي لفرض الهوية اليهودية على قلب المدينة المقدسة، والثاني يتمحور حول الناحية الدعائية التي يهدف من خلالها الاحتلال للتسويق بأن القدس يهودية، وأنه صاحب السيادة عليها، ونجد أن هذه المشاريع على الرغم من كل ما يصب إليها من أموال، فإنها تفشل في تحقيق هذه الغاية تحديداً.
وأضاف لـ “معراج”: “المنظومة السياسية الإسرائيلية بكافة أحزابها وكياناتها مجمعة على استبعاد القدس من أي مسار سياسي مع الفلسطينيين، وبالتالي فإن هذا التسارع في المشاريع الاستيطانية يرمي إلى تثبيت أمر واقع بأن القدس مدينة يهودية موحدة بالكامل، ولا يمكن تقسيمها أو تسليم أي جزء منها للدولة الفلسطينية الموعودة”.
ولفت أبو عواد إلى أن إسرائيل نجحت في أمر مهم في ظل استمرار خططها التهويدية ومشاريعها الاستيطانية ألا وهو تجميد دور الأطراف المختلفة التي تملك نوع من السيادة داخل المدينة المقدسة كالسلطة الوطنية الفلسطينية والأوقاف الإسلامية الأزدنية، وتحديداً في الضغط والتحرك لوقف هذه المشاريع.
وتأكيداً على مدى خطورة هذه المشاريع الاستيطانية واستمرار تفشيها داخل المدينة المقدسة، دعا الناطق باسم حركة “حماس” عن مدينة القدس محمد حمادة، إلى ضرورة تضافر الجهود، وتصعيد المقاومة بكل أشكالها في وجه العدو تحت عنوان الدفاع عن القدس هوية ومقدسات، مشدداً على أن طرح هذه المخططات الخطيرة، يأتي في الوقت الذي تتزايد فيه خطوات التطبيع من قِبل بعض الدول العربية، الأمر الذي شجّع الاحتلال على مزيد من العدوان على القدس وأهلها والأقصى وعُمّاره.