في الوقت الذي أعادت فيه الحرب الروسية الأوكرانية الجدل حول طبيعة النظام العالمي، وخصائص تفاعلاته، وأوزان القوة والتأثير للفاعلين فيه، ينظر العالم وصانعو القرار بريبة إلى ما ستؤول إليه الأحداث، وإلى ما سينكشف عن حقيقة نفوذ الدول ومكانتها في معادلة الهيمنة والسيطرة السياسية والاقتصادية والأمنية على حلبة التنافس العالمية من ناحية، ومدى تأثر الملفات الدولية والإقليمية من ناحية أخرى وقد صُبغت على مدى عقود طويلة بلون أميركي، وكان لعدد من القضايا العربية والإسلامية، وبالذات القضية الفلسطينية، نصيبٌ كبيرٌ من ذلك التأثير الأميركي.
أعادت الحرب الروسية الأوكرانية فتح النقاش حول جملة من القضايا على المستوى العالمي، سياسية وأمنية واقتصادية… إلخ، ولعل من أهم ما يدور الحديث عنه، ويخص عددًا من القضايا العربية والإسلامية، ومنها القضية الفلسطينية، هو الحديث المستجد عن بعض المفاهيم والقيم الإنسانية ذات الأهمية الخاصة للفلسطينيين ولأصدقائهم في العالم، كمفاهيم الاحتلال والمقاومة والإرهاب والتطرف.
تبنّت الولايات المتحدة الأميركية الموقف الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين بأبعاده كافة، بما فيه التصوير الإسرائيلي لذات الفلسطيني وهويته وسلوكه التحرري. وقد تمكنت الولايات المتحدة ومعها أغلب القوى الغربية، وبما تمتلكه من أدوات القوة والتفوق المختلفة، التي سادت على امتداد عقود طويلة خلت، من إقناع أو إجبار معظم دول العالم على تبنّي تعريفها الخاص للاحتلال والمقاومة والإرهاب. ففي فلسطين نجحت في إضفاء شرعية دولية على مشروع استيطاني إحلالي عنصري متطرف، قام على أنقاض شعب تمتد جذوره عميقًا في أرضه، منتميًا إلى تاريخ المكان وجغرافيته وحضارته. وأعطت لنفسها الحق في فرض تعريفها الخاص، وتصنيفها لحركات المقاومة الفلسطينية وأدواتها المختلفة، وأجبرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على الإعلان رسميًّا عن تخليها عن المقاومة، وإدانتها، ووصفها في بعض الأحيان بالإرهاب، كما وضعت حركات المقاومة الفلسطينية على قوائم الإرهاب، ولاحقت قياداتها وكوادرها عبر العالم.
نعيش اليوم في ظلال أحداث قد تفضي إلى إنتاج نسخة جديدة من النظام الدولي، بلا شك ستفرض انعكاساتها على التعريفات والمفاهيم الغربية-الأميركية السائدة. فالعالم الغربي يواجه اليوم تحديًا، بل مأزقًا قيميًّا ومفاهيميًّا، إذ إن قوة ليست عربية ولا إسلامية ولا من العالم الثالث تغزو دولة أوروبية، ومع هذا الغزو عادت إلى وسائل الإعلام الغربية والعالمية، وعلى ألسن القيادات السياسية في العالم، مصطلحات المقاومة والإرهاب والنازية والمرتزقة. فقد حث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأجانب على التوجه إلى السفارات الأوكرانية في جميع أنحاء العالم للانضمام إلى “لواء دولي” من المتطوعين للمساعدة في محاربة القوات الروسية الغازية، وطالبت أوكرانيا بتشكيل “فيلق مقاومة دولي” للدفاع عنها وعن الديمقراطية والقيم الحضارية. وفي المقابل توعدت روسيا من عدّتهم “مرتزقة أوروبيين” من مواطني الدول الغربية القادمين للقتال ضد موسكو في أوكرانيا، وقالت إنها لن تعاملهم كأسرى حرب، وذكرت أن واحدًا من أسباب غزوها لأوكرانيا هو مواجهة القومية المتطرفة والنازية الجديدة فيها.