ككاتبٍ للتقرير لم أتمالك نفسي وأنا أسجل شهاداتهم، كل حرفٍ كتبوه أو نطقوه كان بمثابة جيشٍ من الأحاسيس والمشاعر، كل دمعة نزلت سردت معها حكاية طويلة من الشوق والحنين لبيت الله، والغصة والقهر على وطنٍ غزاه الطغاة، وما بين الرجاء والدعاء كانت هناك حكايا كالغيوم مليئة بالدموع.
فمن القدس المباركة، إلى الحرم المكي الشريف، طريق ليست ببعيدة في ظل تطور وسائل النقل، إلا أنها كانت عامرةً بالأحاسيس الإيمانية الروحانية، فكل دقيقة مرت كان لها طعم مختلف.
حجاج أكرمهم الله وجعل لهم نصيبا من الحج هذا العام، منهم من انتظر طويلا هذه اللحظة، ومنهم من ودع ابنه شهيدًا، ومن ترك فلذة كبده أسيرًا، ومنهم من شد الرحال ليدعو لنجله الجريح أن يشفيه الله بعد أن يأس من الطب والدواء.. وآخرون حملوا همومًا لا تحملها الجبال، كل واحد منهم وراءه قصة، رواها لـ “معراج” ونرويها اليوم لكم.
القاضي إياد العباسي
كتب كثيرًا حتى شعرنا أنه لا يريد أن يتوقف، وأن في قلبه كثير ليخطه ويكتبه، حروفه كانت بمثابة حوافز للدموع، ومحركات للمشاعر، فلا يمكنك أن تقرأ ما كتبه ولا تشعر أن جسدك يرتجف.. إنه حب الله وحب لقائه، إنه الشغف الطويل لرؤية مكة وكعبتها المشرفة وحجرها الأسود، والدعاء فوق جبل عرفات.
يقول قاضي القدس الشرعي وعضو الهيئة العليا الإسلامية في بيت المقدس: “إن المشاعر الإيمانية في مكة والحرم مشاعر فياضة، فهناك تشعر بالراحة النفسية، وهناك تحلق الروح في سماء الطهر والإيمان، وإلى مكة تهوي النفوس وتشتاق، كما قال الله تعالى (واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، إنها مشاعر العبودية الخالصة لله تعالى، فالحاج يتحمل كل تلك المصاعب وكل ذلك التعب، طاعة لله، وابتغاء لمرضاته، وطلبا لمغفرته. إنها مشاعر الفرح أنه سيعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه، إنها مشاعر الإحساس بفتح صفحة جديدة في العلاقة مع الله”.
ولم يغب الأقصى عن دعائه، فلم يترك مكانًا أو وقتا مباركا إلا ودعا فيه أن يحمي المسجد الأقصى المبارك، ويرد كيد الغاصبين إلى نحورهم، وقد وقف في الناس خطيبًا وواعظا ومرشدا مما علمه الله، فألهمهم أن يدعو للأقصى فكان دعاءً مشتركًا من القلب إلى القلب.
ويتابع القاضي وهو يربط بين ما رآه بالأقصى وما يراه اليوم في مكة:” عندما رأيت حمام الحرم المكي، تذكرت حمام المسجد الاقصى، وقلت في نفسي: (إن حمام الحرم المكي يبعث سلامه لحمام الحرم المدني، وكلا الحمامين يرسلان تحياتهما لحمام الحرم القدسي، نسأل الله أن يقر أعين المسلمين برؤية حمام المسجد الأقصى في يوم قريب ينتصر فيه الحق وتعلو فيه راية الإيمان).
والدة الشهيد محمد شرف
أما والدة الشهيد المقدسي محمد شرف الذي ارتقى برصاص أحد المستوطنين الحاقدين عام 2017، فتقول لـ”معراج” :”عندما أكرمني الله بالحج هذا العام لم أصدق نفسي، فقد كان هذا المنى والمراد والحلم منذ سنين، اختلطت علي مشاعري وحمدت الله كثيرًا على كرمه وفضله”
وتتابع:” أكرمني الله بالصحبة الصالحة، التي هونت علي مشقة السفر، وفي بيت الله دعونا كثيرا ورفعنا إلى الله شكوانا من سواه يجيب دعوانا”.
وأكثر ما كان على لسانها دعائها لنجلها الشهيد الذي قتل ظلما وبهتانا ولم يتجاوز 17 عاما من عمره، تقول:” لم يغب ابني الشهيد محمد الذي اصطفاه الله لجواره عن دعائي، وقد دعوت كثيرا له أن يقتص الله ممن قتلوه، وأن يتغمد كل شهداء فلسطين والقدس بواسع رحمته”.
ووجهت تحتيها لكل من وقف معها وساندها، وعبرت عن سعادتها بالشعوب العربية التي استقبلتهم كمقدسيين أجمل وأفضل استقبال، وهو ما أعاد الأمل بالأمة، وأن قضية فلسطين ما زالت حاضرة في قلوب الشعوب.
والدة الأسيرة شروق دويكات
“عندما علمت أني سأحج هذا العام بكيت كثيرا، وكبرت وحمدت الله مرارا، كان هذا حلم حققه الله لي”.
بهذه المشاعر استقبلت والدة الأسيرة المقدسية شروق دويكات خبر حجها لهذا العام، كيف لا وهي من تمنت هذه اللحظة بفارغ الصبر.
تقول:” المشاعر الإيمانية كانت فائضة، بكل جوارحنا بكل ما أوتينا من توسل وانكسار لله تعالى، خاصة أني أشاهد الكعبة والمسجد النبوي لأول مرة في حياتي بالواقع”.
وتتابع:” عشت أياما قليلة بمكة، إلا أنها تعادل كل حياتي، فهذه الأيام كانت أيام ولادتي وعودتي للحياة من جديد، لقد ردت إليَّ الروح، وشعرت أني أفرغت ما في قلبي لخالقي”
وعن ابنتها الأسيرة تقول:” دعوت لشروق كثيرًا وأنا مؤمنة ومتيقنة أنه الله سيستجيب لدعائي، شعرت بيقين كبير أنني سأعانق شروق مجددا وهي حرة، كما دعوت لجميع الأسرى والشهداء ولفلسطين ولقدسنا”.
الحاجة رائدة حجازي
بصوتٍ ممزوج بالدموع.. وكلماتٍ تكاد لا تصدق نفسها تقول الحاجة رائدة حجازي: “لم تكن طريقي معبدة بالزهور، تعبت كثيرًا وطرقت عشرات الأبواب وتوسلت الله مرارًا ورجوته حتى أذن لي أخيرًا بالحج”.
وتتابع: “فرحتي بالحج لا توصف، عناء السفر ومشقته كله يهون عند رؤية الكعبة المشرفة، أشعر بالفخر لأنني من حجاج القدس، كنا جميعًا على قلب رجل واحد، واهتممنا بكبار السن وآثرناهم على أنفسنا، وكان الجميع يمر بأجواء من المحبة والألفة والشوق الكبير للوصول”.
وتصف الحجاج قائلة: “لقد رأيت في عيونهم لهفة وفرحة لا توصف، الجميع كان ينتظر بشغف كبير لحظة الوصول”.
أما عند وصولها وبدء مناسك الحج فتقول: “المشاعر لا يمكن وصفها، كان الحجيج كأنهم غطاء أبيض، وحين نقول لبيك اللهم لبيك نشعر أنها تخرج من أعماق قلوبنا، ترتجف أجسادنا ونستشعر مخافة الله، ودعونا كثيرًا كثيرًا خاصة فوق جبل عرفات، لن أنسى هذا المشهد العظيم ما حييت”.
وعن لقائهم كبعثة القدس مع عامة الناس في موسم الحج: “بمجرد أن يعرف الناس أننا من القدس يأخذوننا بالأحضان، وبعضهم يريد أن يقبل أيدينا ورؤوسنا، وآخرون يتقربون منا ويسألونا عن القدس وعن حكايا صمودنا، لقد وجدنا محبة الناس الكبيرة للقدس وأهلها وأعاد ذلك الأمل لنا من جديد”.
ولم يغب الدعاء للقدس والمسجد الأقصى عن حجاج القدس، فقد كان له الحصة الكبيرة، تقول: “أذكر في ساعة قبل غروب شمس يوم عرفة، كنا حجاج فلسطين نجلس في خيمة واحدة، فرفعنا أكفنا ودعونا أن يحمي المسجد الأقصى ويفك أسره، فلم أسمع وقتها إلا نحيبا وبكاءً ورجاء”
وتتابع: “وحين كنا ندعو للأسرى والجرحى والشهداء، كنت أسمع كلمة أمين تخرج من أعماق الآباء وقلوب الأمهات، ولا يمكن أن تستملك نفسك أمام هذا الدعاء إلا أن تبكي كثيرًا ويعلق قلبك في تلك الخيمة للأبد”.