منذ سنواتٍ عديدة يواجه الشيخ الدكتور ناجح بكيرات أحد أبرز الشخصيات الوطنية والدينية، والقيادات المجتمعية المؤثرة في مدينة القدس، المعروف بنشاطاته المتعددة في الدفاع عن المسجد الأقصى، وتثبيت الوجود الفلسطيني بالمدينة المحتلة، حملة استهداف إسرائيلي لا تتوقف، تسودها قرارات عنصرية جائرة وملاحقات مستمرة.
سيرةٌ حافلةٌ في الدفاع عن الأقصى وفي تثبيت الوجود الفلسطيني وتأصيله ودعم وتعزيز صموده وثباته، تأخذكم “معراج” في جولةٍ على أبرز محطاتها مع هذه القامة الوطنية الفذة التي لم تفتّ إجراءات وممارسات وملاحقات الاحتلال من عضدها ولم تهزمها قط.
النشأة والتعليم ..
ولدت بتاريخ السابع والعشرين من حزيران عام 1958 في مدينة القدس، وترعرعت في بلدة صور باهر إحدى قرى القدس المشهورة تاريخياً، والتي لا تبعد سوى 7 كيلومتر عن البلدة القديمة، وأتمت دراستي الابتدائية والإعدادية بها ثم انتقلت لدراسة المرحلة الثانوية في دار الأيتام الإسلامية بجانب المسجد الأقصى، فكانت نشأتي في أحضان الأقصى منذ الطفولة.
تلقيت تعليمي المختصر في المعهد الشرعي في المسجد الأقصى المبارك، ومنذ اليوم الأول وعمري 18 عاماً ونصف، تم تعييني كخطيب وإمام ومدرّس وخادم ومؤذن في قرية عبوين برام الله، فكنت أصغر خطيب يعتلي المنابر في هذه الفترة، وعُيّنت في الخامس من تموز عام 1977 خطيباً وإماما ومدرساً في هذه القرية.
كنت أصلي العصر والمغرب والعشاء والفجر في قرية عبوين، ثم أنطلق مباشرةً لمدينة القدس وإلى المسجد الأقصى قاطعاً حوالي 40 كيلومتر، فأكون هناك تمام الـ 6 صباحاً، لأتلقى تعليمي في الدبلوم، ثم التحقت بكلية الدعوة وأصول الدين، ثم أتممت ماجستير الآثار فكتبت بها كتاب من أفضل الوثائق التي خدمت مساجد مدينة يافا، ثم درست إدارة الأعمال إلى أن نلت درجة الدكتوراة بامتياز في تاريخ مدينة القدس من جامعة الزيتونة في تونس.
منذ العام 1997 وحتى عام 2003 كنت محاضراً في جامعة القدس بمادتي “بيت المقدس” و”الحضارات العالمية”، وشغلت مناصباً عدة منها مديراً لثانوية الأقصى، ومديراً للتعليم، ومديراً للأملاك، كما وأسست مركز ترميم المخطوطات في المسجد الأقصى.
نشاطه في الأقصى وبدء الملاحقة
انتقلت من عبوين في عام 1980 للمسجد الأقصى وعُيّنت كإمام في أغلب مساجد البلدة القديمة، وفي ذات الوقت، عُيّنت كمرشدٍ للزوار والطلبة المسلمين في المسجد الأقصى، ومن هنا عرفني جيداً كل طلبة فلسطين الذين كانو يزورون الأقصى وكانوا يلقبونني بالمرشد الناجح ناجح بكيرات، فكنت أطوف الأقصى يومياً أكثر من 10 جولات حاملاً مفاتيح المصلى المرواني والأقصى القديم.
توطدت علاقتي بالبلدة القديمة وبأهلها وكننا ننفذ سوياً نشاطات كثيرة كالأعراس الإسلامية، ودورات القرآن، وأسبوع السنة النبوية، ومن هنا تفطن الاحتلال لوجودي وبدأ بملاحقتي والتضييق عليّ بشكلٍ فعلي، فكان أول اعتقالٍ لي في عام 1985، ثم ثاني اعتقال كان في عام 1987 واستمر 4 سنوات، ثم توالت الاعتقالات حتى وصل مجموعها إلى 33 اعتقال، بمدةٍ تجاوزت 8 سنوات، كان آخرها مطلع حتى هذا العام.
لم تطال ملاحقات الاحتلال واعتداءاته على شخصي فحسب، بل طالت أولادي وعائلتي ومنزلي، فإبني مالك اعتقل لمدة 20 عاماً، وأولادي جميعهم طالهم الاعتقال كذلك، كما استهدف الاحتلال منزلي المتواضع في بلدة صور باهر فداهمته قوات الاحتلال ما يزيد عن 45 مرة وعاثت فيه خراباً وتدميرا.
لماذا يلاحق الاحتلال الشيخ ناجح بكيرات؟
كان الاحتلال يرى في ناجح بكيرات، شخصية فطنة سياساً، ذكية اجتماعياً، قادرةً على جذب الجمهور والتعامل معه، ولذلك تعاطى معي في بداية الأمر بشكل عنيف جداً، لدرجة أنني في ذات مرات الاعتقال دخلت المستشفى في محاولة منه لإفقادي ذكائي وعقلي وموهبتي، ساعياً لضغط عليّ لإدراكه جيداً عمق الفكرة التي أتبناها في حبي وتعلقي الشديد بالمسجد الأقصى المبارك.
كنت أحتضن مدينتي كطفلٍ يحتضن أمه التي يدرك أن أحداً ما يريد أن يحرمه إياها، أضعها في قلبي خشية أن يسرقها أحد أو يمسها بسوء، كنت أبحث عن كل ما يُفقد في المدينة من بشر أو حجر، ساعياً لأن أجعل مجتمعي مجتمعاً عصامياً، وبدأت بطرح العديد من المبادرات التي كانت سبباً في تركيز ملاحقة الاحتلال لي على الدوام.
طرحت مبادراتٍ عديدة لأبني مجتمعاً عصامياً وأجعله أكثر تماسكاً وترابطاً في وجه المخططات المتصاعدة التي تستهدفه يوماً بعد يوم، ولربما كان أبرزها: مبادرة المجتمع المقدسي العصامي، ومبادرة الزواج الاجتماعي، ومبادرة دعم النواب، ومبادرة المتر الخيري، ومبادرة الماء الوقف، ومبادرة الخيام في الأقصى، ومبادرة إعادة بناء المنازل التي يهدمها الاحتلال، وكذلك مبادرة إعادة إحياء وترميم المصلى المرواني، وجميع هذه المبادرات كنت أشارك بها المقدسيين يداً بيد وساعداً بساعد ولربما هذا ما خلق لي جمهوراً محباً وداعماً.
ما يجعل الاحتلال يتخوف من شخصيات كالشيخ ناجح بكيرات، هو أنها صاحبة مبادرة وعزيمة وموقف ولديها قدرة على التأثير في المجتمع المقدسي وصولاً لإفشال مخططات الاحتلال المتتالية التي تستهدفه، فكوننا أصحاب مبادرة وتأثير، استطعنا أن نتغلب على إرادة الاحتلال ونفشل مخططاته في قضية البوابات الإلكترونية، عندما منعنا الشخصيات الدينية من المرور عبرها، وسجننا على إثر ذلك الحراك، وكذلك في قضية باب الرحمة بإعمارنا له.
كل ذلك لم يرق للاحتلال فكانت الملاحقات والاعتقالات والإبعادات وإلصاق التهم الزائفة بالمنظمات الإرهابية وما شابه، فأصدر الاحتلال بحقي منذ العام 2003 وحتى اليوم، ما يقارب 34 قرارًا بالإبعاد منها ما كان عن المسجد الأقصى ومنها عن البلدة القديمة ومنها عن مدينة القدس بشكلٍ كامل، وكل ذلك في ظل شَغلِي لمناصب إدارية عليا وبعد ما يقارب 50 عاماً من عملي داخل أروقة الأقصى.
أبرز المواقف أعظمها وأقساها على الشيخ ناجح بكيرات في الأقصى ..
أذكرُ أن أصعب موقف شهدته في الأقصى ولا يكاد يغيب عن ذاكرتي، كان يوم دخول المجرم شارون إلى باحات الأقصى، وحينما وقعت المجزرة المريرة، حين رأيت أدمغة شباب الأقصى على بلاطه فكان موقفاً مؤثراً إلى أبعد الحدود، وبعدما تم قمعنا وضربنا والتنكيل بنا، كان المشهد الأشد قسوة حين وقف جنود الاحتلال على قبة الصخرة يرفعون الهروات ويهتفون فوق دمانا بالانتصار في مشهدٍ غاية في العنصرية والإجرام والقسوة.
قلت حينها، ستهزمون بإذن الله وهذه الدماء التي نزفت على بلاط الأقصى هي التي ستنبت النصر والحرية، ورغم قساوة ذاك المشهد، لا أنسى فرحتي الكبيرة ونحن نفتتح المصلى المرواني، وأنا أسجد على 4000 متر كانت مهملة، ولا أنسى فرحتي ونحن نعيد ترميم المصلى القبلي، ولا انسى فرحتي بتخريج آلاف الطلبة من حفظة القرآن في الأقصى القديم، ولا أنسى كذلك فرحة إعادة فتح باب الرحمة.
رسالة الشيخ ناجح بكيرات ..
أقولها وبكل ثقة، نحن بحمد الله في نهضة إيمانية واجتماعية عظيمة فبعد أن كنا 200 و300 نصلي الفجر في الأقصى بتنا 5 آلاف و10 آلاف ويزيد، والاحتلال يشعر بهذه الهزيمة ويتصرف تصرف المهزوم، ورغم أنه يملك العسكر والجيش والأدوات، إلا أنه لا يملك الأرض والهوية والإرادة فنحن أصحابها، وما دمنا نملكها ونستمدها من أرضنا وديننا وقرآننا فنحن الغالبين بإذن الله.
رسالتي لشعبنا.. على النخب والعلماء والمؤسسات أن تتحرك ولا تترك القدس وأهلها وحيدين، فالتاريخ سيسجل كل موقف، لذلك سجلوا بأنكم أعزاء، فضريبة العزة ما هي إلا بضع قطراتٍ من الدماء أو بضع ساعاتٍ من السجن، وهي ضريبة بسيطة جداً مقارنةً بضريبة الذل التي يغمرها الضياع الكامل للأمة والمقدسات والوطن.