يثبت المقدسيون يوماً بعد يوم للاحتلال ومستوطنيه وحكوماته الهشة المتعاقبة بأنهم على رأس هرم السيادة وأن مخططاتهم الكبرى لم تستطع ولو لساعةٍ أن تفرض واقعاً أو تدحر فكرةً أو أن تصنع حتى حالة من اليأس والتسليم.
أساليب مبتكرة مبتدعة لازال يختلقها المقدسي يوماً بعد يوم ومرحلةً بعد مرحلة، ليرسم ملامح صورة صموده الأسطوري التي لا تتكسّر، فما بين رباطه في الأقصى وصلاته عند أقرب نقاط إبعاده عنه، وتواجده على عتبات باب العامود، وسكبه للزيت على طرقات حَيّهِ لإعاقة آليات الهدم، أو لربما نصبه خيمةٍ فوق ركام منزله المهدوم يفترش فيها الأرض ويلتحف السماء، أو ابتسامة نصرٍ أثناء اعتقاله، أو غيرها الكثير من وسائلٍ يثبت بها حقه ويفرض بها سطوته.
لم يقف الأمر عند ملامح الصمود والثبات بل إن تصاعد عمليات المقاومة الفردية والشعبية في القدس شكل حالة من الإرباك لحسابات مؤسسات الاحتلال الأمنية وأسهم في خلق حالة من الرعب تجسدت في نفوس جنود الاحتلال ومستوطنيه، الأمر الذي دفعهم لصب غضبهم وتكثيف اعتداءاتهم ومظاهر عنفهم على المقدسيين.
تحولات تاريخية بارزة شهدها النضال في مدينة القدس، وارتبطت بطبيعة الأحداث والمواجهة مع إسرائيل، فمع إعلان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، القدس عاصمة لإسرائيل نهاية، عام 2017، دخل النضال المقدسي في مراحل أكثر عمقًا، عبر سلسلة من الهبَّات الاحتجاجية على جرائم الاحتلال ومستوطنيه وانتهاكاته المتكررة لقداسة المسجد الأقصى، إلى أن أصبحت الهبَّة الشعبية المؤقتة، أحد أشكال نضال الفلسطينيين الجماعي في القدس.
القارئ للمشهد في القدس يستطيع الوقوف جيداً على ملامح المرحلة التي رسمها المقدسي في مختلف أماكن تواجده، عبر ما يحدث يومياً على أرض الواقع، فمعادلة القوة في المدينة اليوم قد اختلفت وبات الفلسطيني هو من يمتلكها، وحالة النضال باقية وتتوسع في كافة الأرجاء، ومن يقف خلف تمددها هو حالة الدعم والالتفاف الجماهيريين.
المواجهة .. أساليبها ودوافع تطورها
النائب المقدسي أحمد عطون يقول في حديثٍ خاص لـ “معراج”، إن تطور سبل وأساليب المواجهة مع الاحتلال والتي يقودها الفلسطيني بشكل عام والمقدسي بوجه خاص أمر طبيعي جداً لكل شعبٍ يتوق للحرية، فالعنفوان والشموخ في مواجهة الاحتلال أمر يمارس يومياً من أطفال القدس ونساءها وشيوخها، وإنما وجد ليدلل على تجذر المقدسي في أرضه ودفاعه عن وجوده بالإمكانات المتاحة في ظل الخذلان العربي والإسلامي.
ويشير النائب عطون إلى أن الوضع الطبيعي لمدينة القدس هي أن تحرر وتعود لحاضنتها العربية والإسلامية، وإلى ذلك الوقت سيبقى المقدسي يبدع في أساليب نضال ويبتكر وسائل مواجهات جديدة للاحتلال، ليؤكد على صموده ورفضه لوجود هذا المحتل أرضه.
ويضيف: “الاحتلال سعى كثيراً ليجذر معادلة “الكبار يموتون والصغار ينسون”، ولكن أهل القدس قلبوا هذه المعادلة، لذلك تجدنا نشاهد اليوم سلوك متقدم ينبع من أطفال القدس الذين هم على تماس مباشر ويعون جيداَ جرائمه وعنصريته، في ذات الوقت الذي يمثلون فيه حالة انعكاس للشارع المقدسي الذي يمتلك محرك حقيقي لحالة الصراع، ألا وهو المسجد الأقصى المبارك الذي يمثل جزء من حياة المواطن المقدسي ويومياته، كبيراً كان أو صغيراً رجلا أو امرأة”.
ولفت عطون إلى تجذر الحس بالمسؤولية العالية لدى أبناء القدس بوجوب مواجهة الاحتلال بشتى الطرق، النابع من شعورهم أنهم رأس حربة متقدمة بوجودهم في هذه البقة الطاهرة والتي شرفهم الله بها دوناً عن شعوب الأرض، لذلك فإن هذه الحالة ستبقى حالة تواترية يورثها الآباء لأبنائهم بصورة فطرية نابعة عن قناعات عقائدية.
ويشدد عطون على أن حالة الصراع ستبقى مشتعلة ومتجددة في مدينة القدس طالما بقي الاحتلال بعنجهيته يحاصر ويهدم ويقتل ويعتقل ويضيق ويحاصر الأرزاق ويمس الحرمات والمقدسات، أمام مرأى ومسمع من الصغار الذي سيتولد بداخلهم الحقد والكره والبغض لهذا الاحتلال يوماً بعد يوم، ومعهم ستتولد أساليب مواجهةٍ وتحدٍ وثأرٍ جديدة أيضاً، حتى زوال هذا العدو عن هذه الأرض.
هل نجحت سياسة “القبضة الحديدية” في كسرها؟
من جانبه أكد الناشط المقدسي ورئيس لجنة أهالي الأسرى المقدسيين أمجد أبو عصب، إلى أن الهجمة التي يشنها الاحتلال على مدينة القدس هي هجمة شرسة، وتأتي في ظل عدم وجود مقومات صمود مادية وعسكرية بيد المقدسيين، لافتاً إلى أن قوة وإصرار الشعب الفلسطيني، نابعة من إرادته الحالمة بالحرية وعدالة قضيته وهذا ما أرهق الاحتلال كثيراً.
وأشار أبو عصب خلال حديثه لـ “معراج” إلى أن الاحتلال اعتقد بأن “قبضته الحديدية” على أهالي مدينة القدس عبر خلقه واقعاً صعباً مرهقاً يحمل عواملاً طاردة، من شأنه أن يجبر المقدسي على الرضوخ والاستسلام والرغبة بالعيش بسلام، لكن ما حدث على أرض الواقع هو صورة مغايرة لتوقعاته، فقد أصبح المقدسي أكثر تمسكاً وأشد إيماناً بعدالة قضيته وحتمية النصر.
وتابع: “تبدد الخوف في نفوس أبناء شعبنا قلب الآية وجعل من الجندي المدجج بالسلاح شخص ضعيف يشعر بالخوف أمام الفلسطيني حتى وإن كان طفلاً، وبتنا نرى أن الأطفال في مدينة القدس يشكلون عبئاً على الاحتلال خاصة وأنهم يحملون هواتفاً ويستطيعون توثيق انتهاكات واعتداءات الاحتلال ويتواجدون في المسجد الأقصى المبارك ويستمعون للأناشيد الوطنية، حتى أنهم باتوا يشاركون في أعمال مقاومة عديدة، وما يدلل على ذلك طبيعة الأحكام العالية التي يصدرها الاحتلال بحق الأطفال في محاولة يائسة لردعهم وإدخال الخوف في نفوسهم وإرهاب ذويهم”.
وأوضح أبو عصب أن مشاهد التحدي التي يتم رصدها يومياً على أيدي أطفال القدس لأعتى الجنود المدججين بالسلاح، أمر ليس عابر بل تولد عبر القدوة، مستشهداً مثل شعبي فلسطيني يقول “المراجل تعليم”، ولافتاً إلى أن هذا ما يحدث في القدس فالشجاعة والجرأة ومظاهر التحدي تتولد بالقدوة بين أطفال المدينة وشبابها وتنتشر كالنار في الهشيم، وهذه الثقافة تجعل المحتل يفكر طويلاً في مستقبله على هذه الأرض مع أجيالاً كهذه.
دفاعٌ وثبات منبعه العقيدة
وفي سياق متصل، تؤكد المرابطة منتهى أمارة لـ “معراج” بأن وسائل مواجهة الاحتلال كثيرة وأن الحاجة كما يقال هي “أم الاختراع”، فمضايقات وانتهاكات واعتداءات الاحتلال على المرابطين والمرابطات هي التي كانت تولّد هذه المواجهة بشتى مظاهرها في حالة غير مسبوقة من الثبات والتحدي.
وتشير المرابطة أمارة إلى أن كل هذا التشبث والصمود المتوارث والثبات الذي يسطره الفلسطيني على أرض القدس، نابع من كون “الدفاع عن أرض فلسطين” هو دفاع عقائدي بالدرجة الأولى، مشيرةً إلى أن من ينطلق من منطلق دين وعقيدة لا يهزم لأن يقيته بالنصر أمر حتمي.
وتضيف: “يزداد إيماننا وثباتنا في ساحات الأقصى على أننا أصحاب حق بمجرد بدء اقتحامات جماعات المستوطنين بحماية عسكرية وتأمين كامل من شرطة الاحتلال المدججة بالسلاح في مقابلنا نحن المرابطين الذين نتصدى لهم بصدورنا العارية وتكبيراتنا فقط، وهذا المشهد نرى فيه دليل فعلي على جبنهم وثبيت لمبدأ أن من لا يمتلك الحق يبقى خائفاً ويسترق الشيء كاللصوص دون أدنى جرأة على المواجهة والمجابهة”.