تصحبكم شبكة “معراج” المقدسية في جولة أسبوعية في المسجد الأقصى المبارك، عبر سلسلة من الحلقات للاستكشاف والبحث في تاريخ الأقصى المبارك، معالمه وأروقته، أبوابه ومصلياته، باحاته وقبابه، برفقة الباحث المقدسي رضوان عمرو، مدير مركز المخطوطات في المسجد الأقصى المبارك سابقاً.
نستكمل هذه السلسلة في الحديث عن المصلى القبلي في المسجد الأقصى المبارك معالمه وأروقته ومحاولات تدميره، وجهود ترميمه فلنتابع سوياً..
المصلى القبلي
المصلى القبلي، هو المصلى العظيم الجامع المسقوف جنوب المسجد الأقصى المبارك ذو القبة الرصاصية والأروقة السبعة المهيبة، وتبلغ مساحته 4 دونمات ونصف بطول 80 متراً وعرض 55 متراً، ويقوم هذا المصلى على 100 سارية وعامود واسطوانة تحمل الأروقة والأقواس والسقف الخشبي والجمالون الأوسط للمصلى.
يقوم المصلى القبلي اليوم فوق ما يعرف بالمصلى القديم، أو قاعة ورواقي بابي النبي ويستند على أعمدتها، ويمتد المصلى القبلي إلى الشرق وإلى الغرب عن الأقصى القديم الذي يقع أسفل منه.
قبة وأبواب ونوافذ المصلى القبلي
للمصلى القبلي اليوم عشرة أبواب كبرى سبعة منها في الواجهة الشمالية، أكبرها الباب الأوسط وعن يمينه ثلاثة أبواب تفضي إلى ثلاثة أروقة، وعن يساره أيضاً ثلاثة أبواب تفضي إلى ثلاثة أروقة أخرى، أما في الناحية الشرقية للمصلى فيوجد بابين أحدهم يفضي إلى ساحة الأقصى والآخر يفضي إلى مصلى عمر وعيادة المسجد، وفي الواجهة الجنوبية يوجد الباب الأخير ويفضي إلى دار الخطابة القائمة فوق الزاوية الختنية، ومنه بإمكاننا النزول إلى الزاوية الختنية أو الأقصى القديم أو بابي النبي، وبذلك يكون للمصلى 10 أبواب 9 منها للمصلين والعاشر يفضي إلى مواقع خدمات وعيادات ودار الخطابة.
للمصلى القبلي عشرات النوافذ الخشبية التاريخية المطعمة بالزجاج الملون من فترات مختلفة، وتعلو المصلى اليوم قبة أموية لازالت تحتفظ بطرازها الأموي، وهي قبة خشبية متينة للغاية مغطاه اليوم بألواح الرصاص لتقيها من عوامل الطقس، وهي قبة مزخرفة بشكل بديع من الداخل بالنقوش والزخارف والكتابات الإسلامية المذهبة والملونة وهي تحفة حقيقية وتعتبر ثاني أكبر قباب المسجد الأقصى المبارك بعد قبة الصخرة المشرفة.
كتابات ونقوش المصلى
لازال إلى يومنا هذا في المصلى القبلي نقوش وكتابات هامة للغاية من عصور إسلامية مختلفة، توثق للجهود العظيمة التي قام بها ولاة وسلاطين المسلمين عبر العصور الإسلامية للحفاظ على هذه التحفة العظيمة من العهد الأموي، ومن أمثلة هذه النقوش، كتابة فسيفسائية فوق محراب المصلى القبلي توثق لتجديد الناصر صلاح الدين الأيوبي للمصلى ومحرابه بعد أن حرره من الصليبيين في عام 583 هـ 1187 م عام الفتح، كما يوجد هناك نقوش فاطمية وعباسية وأيوبية لمراحل الترميم المختلفة عبر العصور الإسلامية، وأيضاً كتابات حديثة للمجلس الإسلامي الأعلى الذي رمم المصلي القبلي مطلع القرن الماضي.
أول بناء للمصلى القبلي
أول مصلى أقيم في هذا المكان كان بأمر من أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي فتح مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، وكان من أعماله بعد الفتح أن أمر ببناء مصلً “جامع مسقوف” في أقصى جنوب ساحة المسجد الأقصى المبارك وكان من الخشب ويتسع لـ 3000 مصلٍ.
وبعد ذلك انثر ذاك البناء وجاء من بعده المشروع الأموي العظيم لعمارة القدس والمسجد الأقصى المبارك والذي بدأه عبد الملك بن مروان عام 74 هـ ثم جاء ابنه الوليد بن عبد الملك عام 76 هـ ليتم هذا البناء، والذي يدلل على ذلك وجود مراسلات على ورق البردة وجدت في مدينة الفيوم بمصر تعود إلى عهد الوليد بن عبد الملك كتبها والي الأمويين على مصر آنذاك واسمه “قرة ابن شريك” وكان يطلب فيها من أحد حكام الصعيد في مصر إرسال صنّاع محترفين ومهرة لعمارة مسجد بيت المقدس.
كان أول بناء للمسجد القبلي يتكون من 15 رواقاً، وأحضر الوليد بن عبد الملك الفسيفساء لتزيين هذا البناء من القسطنطينية عبر دمشق إلى القدس، وتم حينذاك طلاء أبواب المصلى القبلي بالذهب الخالص، الذي نزع بعد ذلك لترميم المصلى القبلي بعد الزلازل التي ضربته في عصور لاحقة تهدمت فيها أجزاء واسعة من المسجد الأقصى خصوصاً في أواخر العهد الأموي ثم العباسي والتي أدى إحداها إلى سقوط كامل سقف المصلى القبلي وبقاء قبته، ثم الفاطمي.
الاحتلال الصليبي وما فعله بالمصلى القبلي
ظل المسلمون يعمرون المصلى القبلي إلى أن جاء الاحتلال الصليبي عام 1099م ونفذت في هذا المصلى أكبر مذبحة عرفتها القدس في تاريخها، والتي ذبح على إثرها آلاف المصلين والمستضعفين من الشيوخ والرجال والنساء الذين لجأوا إلى الأقصى للاحتماء به، واقتحم الصليبيون آنذاك عليهم المسجد وقتلوا كل من كان بداخله وبلغت حجم المجزرة التي ارتكبت في القدس بـ 70000 من الشهداء ثم ألقاهم الصليبيين في مقبرة جماعية.
بعد هذه المجزرة الكبرى اتخذ الصليبيون من المسجد القبلي قصراً يجلس فيه كبار قادتهم، وبعد عدة سنوات جاءت فرقة من الجيش الصليبي تسمى فرسان المعبد واتخذت من المصلى القبلي مقراً لهم للقيادة ونوم وصالة للطعام وفي ناحيته الشرقية اتخذوا كنيسةً وعلقوا الأجراس وارتكبوا فيه من الفظائع والموبقات ما لا يخطر على عقل أحد من الطقوس الوثنية والممارسات الشاذة.
بعد ذلك جاء صلاح الدين الأيوبي وفتح بيت المقدس وأزال كل الرموز الصليبية ذات الدلالة الدينية من المصلى القبلي وأبقى على الأبنية التي شيدها الصليبيون في الأقصى ورتب في صدر المصلى منبر نور الدين زنكي الهدية العظيمة التي أمر بتجهيزه نور الدين زنكي لتوضع في المسجد الأقصى بعد الفتح، لكنه لم يدرك ذلك فوضعه صلاح الدين الأيوبي، وهو منبر عظيم صنع من خشب الأرز وطعّم وبالأبانوس وبني وزخرفة بطريقة إبداعية عظيمة وحمل من الشام إلى بيت المقدس.
توالت التعميرات المملوكية والأيّوبية وصولاً إلى التعميرات الشاملة في عهد المجلس الإسلامي الأعلى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وهي ترميمات ضخمة تخللها إنزال كامل لسقف المصلى القبلي وتجديد نوافذه وأبوابه وتدعيم قبته وأعمدتها على مستوى انشائي معماري وجمالي وكل ذلك كان بإشراف الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الذي كان له بصمة عظيمة في الحفاظ على المصلى القبلى التي لولاها لاندثر هذا المصلى خلال زلزال 1927 الذي بلغت قوته 6.2 درجات.
الاحتلال الإسرائيلي ومجازره بحق المصلى القبلي
جاء الاحتلال الإسرائيلي ودخل المسجد الأقصى في عام 1967 ونسف بوابة المصلى القبلي بقذيفة وصلت إلى محراب الأقصى ثم اقتحمه الجيش وأطلق النيران على كل من كان في ساحات الأقصى، ثم بدأت أطماع الاحتلال بعد ذلك تظهر بشكلٍ جلي في كل تفاصيل المسجد الأقصى وصولاً إلى إحراق المصلى القبلي في تاريخ 21.08.1969 وقام بذلك آنذاك المتطرف مايكل دينس روهن على رأس عصابة من المتطرفين، واستمرت الترميمات الأردنية بعد ذلك حتى الثمانينات وكانت بطيئة للغاية.
اليوم المصلى القبلي يحتفظ بشكله ورونقه ولكنه بحاجة لبعض الترميمات في عدة مواقع يمنعها الاحتلال، وتقام فيه الصلاة ويرفع الأذان في الأوقات الخمسة، لكنه مستهدف في كل اقتحام للمسجد الأقصى بالقنابل والرصاص وتحطيم النوافذ والأبواب التاريخية وإشعال النيران في سجاده ورش الغاز ومحاصرة المعتكفين، واستهداف أنظمة الكهرباء والإطفاء والإنذار بالتحطيم ورغم كل ذلك لازال المصلى القبلي يمثل معقل المرابطين الدائم في الدفاع عن المسجد الأقصى.