معراج – القدس
أسوار القدس كانت على مر العصور رمزاً لحمايتها، جُعلت لتصمد في وجه الأعداء. وفي كل مرة تتعرض فيها المدينة للاحتلال والدمار، كان السور يعيد بناءه المحتلون أو سكان المدينة. الجدار الأول حول القدس أنشئ في زمن الكنعانيين قبل أكثر من 4 آلاف سنة، أما آخر هذه الأسوار فهو السور العثماني الذي شُيد قبل حوالي 500 عام.
في العصر البرونزي، تأسست مدينة القدس تحت اسم “يبوس”، حيث كانت مساحة المدينة صغيرة جداً لا تتجاوز 50 ألف متر مربع، وكان موقع بقايا جدرانها اليوم فوق نفق سلوان.
بعد أن سيطر الرومان على القدس عام 70 ميلادياً، دمروا أسوار المدينة، إلا أن الإمبراطور هادريان أعاد بناءها وأطلق عليها “إيليا كابيتولينا”، وهو اسم دمج فيه اسم عائلته مع اسم معبد روماني شهير.
بعد ذلك، قامت الإمبراطورة إيفدوكيا بتوسيع الأسوار في الفترة ما بين 438 و443م، ولكن في عام 1033م، دمر الزلزال جزءاً كبيراً من الأسوار التي بنتها. وعقب سقوط القدس في يد الصليبيين عام 1099م، جرى إعادة بناء الأسوار، إلا أن صلاح الدين الأيوبي دمر جزءاً منها بعد استعادتها.
وفي بداية القرن الثالث عشر، أمر ابن أخ صلاح الدين، الملك المعظم عيسى، بإعادة بناء الأسوار من جديد، لكنه قرر هدم أجزاء كبيرة منها عام 1219م خوفاً من أن يستغلها الصليبيون إذا عادوا.
في القرن السادس عشر، قرر السلطان العثماني سليمان القانوني بناء سور جديد للقدس، الذي استمر العمل به بين عامي 1538 و1542م، ليحيط بالبلدة القديمة كما نراها اليوم.
الحصن العثماني
أثار بناء السلطان سليمان لسور القدس تساؤلات عديدة بين العلماء، خاصة بعد أن ظلت المدينة بلا أسوار لفترة طويلة. يعتقد البعض أن دافع السلطان كان دينيًا بالأساس، حيث كان يعتقد أن المدينة المقدسة بحاجة إلى حماية خاصة من هجمات قطاع الطرق البدو القادمين من صحراء البحر الميت.
من جهة أخرى، يرى البعض أن بناء السور كان بمثابة تعبير عن احترام السلطان للقدس، وتقدير مكانتها. كان الهدف من ذلك تعزيز أهمية المدينة، وجذب السكان للسكن فيها، مما يسهم في تحسين وضعها الاقتصادي، وتعزيز نموها الديموغرافي، وتطبيق النظام والقانون داخلها.
ويعتقد آخرون أن السور أُقيم من أجل الدفاع عن المدينة من خطر استئناف الحروب الصليبية، خاصة بعد أن أصبحت تهديدات تشارلز الخامس، ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية، ماثلة في القرن السادس عشر.
لا يزال من غير المعروف بشكل قاطع هوية المعماريين الذين قاموا بتشييد سور القدس في العهد العثماني. يعتقد البعض أن السلطان سليمان قد استعان بالمهندس الشهير سنان باشا، الذي يُنسب إليه تصميم نحو 500 مبنى في مختلف أنحاء الإمبراطورية العثمانية. ومع ذلك، هناك من يرى أن دور سنان باشا في بناء السور اقتصر فقط على تخطيط بوابة العامود.
بدأ العمل في بناء السور من الجهة الشمالية، حيث كانت الأرض هناك منبسطة وسهلة للبناء. وتظهر النقوش الموجودة على البوابات، التي تتضمن تاريخ بناء كل بوابة وفقاً للتقويم الإسلامي، أن عملية البناء تمت على مراحل. إذ مع اكتمال الجدار الشمالي، انقسم العمال إلى مجموعتين: واحدة تابعت بناء الجدار الغربي، بينما انتقلت الأخرى إلى العمل في الجدار الشرقي.
تشير النقوش إلى أن بناء باب العامود في الجدار الشمالي قد تم في وقت مبكر من عام 1538م، بينما تم افتتاح بوابة النبي داود في الجهة الجنوبية في عام 1542م. ومن هذا يتضح أن بناء السور تم إنجازه في غضون أربع سنوات فقط.
شارك في بناء السور العثماني للقدس آلاف من العمال المهرة والبنائين الذين جلبهم السلطان من مدن مثل القاهرة وحلب وإسطنبول. وقد تم دفع رواتبهم من أموال الضرائب التي جمعها من سكان فلسطين وسوريا، إضافة إلى مكافآت مالية إضافية. كما أسهم المسيحيون المقيمون في القدس بتوفير بعض الحجارة اللازمة للبناء.
كان رئيس العمال المسؤول عن إدارة هذا المشروع الضخم هو محمد شلبي النقاش، وهو شخصية عثمانية بارزة كانت تتولى عدة مهام هامة، بما في ذلك جمع الضرائب.
بناء السور التاريخي
ساهمت عدة استراتيجيات في تسريع عملية بناء الجدار العثماني للقدس، بجانب العدد الكبير من العمال الذين شاركوا في المشروع:
- البناء على الأسوار القديمة: تم بناء الجدار الجديد فوق بقايا الأسوار السابقة حيثما أمكن، مما ساعد في توفير الكثير من الأساسات والمحاجر المستخدمة في البناء.
- استغلال الأحجار القديمة: قام البناؤون بهدم المباني القديمة، مثل الكنائس المتهالكة ودور الضيافة، واستخدموا الحجارة المستخلصة منها في بناء الجدار. كما استُخدمت التحف الحجرية لتزيين بوابات الجدار وأبراجه.
- تقليص محيط السور: بدلاً من تضمين جبل صهيون ضمن الأسوار، اختار البناؤون أن يتبعوا المسار الجنوبي للسور الفاطمي، مما أدى إلى ترك جبل صهيون ومدينة داود خارج الجدار.
- دمج أسوار المسجد الأقصى: ربط البناة الجدار بالجانب الجنوبي للمسجد الأقصى، مما جعل الجزء الشرقي من السور والجدار الشرقي للمسجد جزءًا من السور العام للمدينة. وقد أضيفت أسنان بنائية في الجزء العلوي من الأسوار لتوحيد مظهره مع بقية الجدار.
- تصميم جدار أقل سمكًا: رغم ارتفاع السور العثماني، إلا أن سمكه كان أقل مقارنة بأسوار مدن أخرى من نفس الفترة. كانت السماكة في أوسع الأجزاء لا تتجاوز مترين ونصف، بينما كان سمك الجدران في مدن أخرى يصل إلى 4 أمتار أو أكثر.
بعد الانتهاء من بناء الجدار، أولت الحكومة العثمانية اهتمامًا كبيرًا بصيانته والحفاظ على سلامته. ففي عام 1556م، على سبيل المثال، تم محاكمة رجل بتهمة الحفر بالقرب من باب الأسباط بشكل قد يهدد أساسات التحصينات. وفي عام 1557م، أرسل السلطان معدات مالية ضخمة لتقوية التحصينات، كما تم بناء خندق حول السور في الأماكن التي كانت بحاجة إلى تعزيز إضافي لضمان قوة الجدار وحمايته.
تفاصيل سور القدس
يمتد سور القدس على طول 4325 مترًا، ويصل ارتفاعه بين 10 و15 مترًا، محيطه يشكل مربعًا مساحته تقارب الكيلومتر المربع، الذي يمثل اليوم المدينة القديمة. تم بناء السور غالبًا على أساس الجدران القديمة التي كانت تحيط بالمدينة.
في بعض المناطق، تم بناء السور فوق تلال صخرية مما جعل الأساسات أقل عمقًا، مثل تلك التي تقع فوق مغارة سليمان الكتان. أما في مناطق أخرى، حيث تكون الأرض منخفضة، فقد تطلب الأمر بناء أساسات عميقة لتثبيت الجدار.
بالمقارنة مع أسوار المدن في العصور الوسطى، فإن عرض السور العثماني ليس سميكًا جدًا. في الجزء السفلي، يبلغ عرضه حوالي 2.5 متر، وفي المناطق التي تحتوي على فتحات إطلاق النار (الطلاقات) يبلغ العرض حوالي 1.5 متر، بينما في منطقة الأسنان العليا للسور لا يتجاوز عرضه 70 سنتيمترًا.
أنظمة الحماية في السور
يتضمن الجدار العثماني للقدس العديد من وسائل الدفاع المتنوعة، منها:
- أسنان بنائية: تم تصميم هذه الأسنان لتمكين الجنود من الاختباء خلفها أثناء الهجوم، بحيث يمكنهم إطلاق النار على الأعداء من المسافات بين الأسنان.
- أبراج الحراسة: يبلغ عدد هذه الأبراج 35 برجًا، وهي تبرز من خط الجدار، وتوفر للجنود القدرة على إطلاق النار على العدو من ثلاث جهات إذا حاول تسلق الأبراج.
- فتحات إطلاق النار (الطلاقات): هي نوافذ ضيقة في الجدار وأبراج الحراسة، تمكن الجنود من مراقبة ما يحدث خارج الجدار وإطلاق النار على الأعداء دون أن يتمكنوا من رؤيتهم.
- مساقط الزيت: توجد شرفات حماية فوق الأبراج، وخاصة فوق البوابات، حيث يمكن للحراس صب الزيت المغلي أو الماء الساخن على الأعداء.
- الخندق: هو حفرة عميقة تمتد على طول الجدار الشمالي، وهدفها منع حملة الكبش من الاقتراب من الجدار. ولم يقم العثمانيون بتجديد الخندق الأيوبي، بل بنوا السور على طول امتداده.
- فتحات المدفع: تميز الجدار العثماني بوجود فتحات صغيرة في رأس السور مخصصة لوضع المدافع. هذه التقنية كانت جزءًا من استراتيجيتهم الحربية المتطورة باستخدام الأسلحة النارية، ما سمح لهم بالتفوق على المماليك الذين كانوا يعتمدون على القتال التقليدي.
- بوابات محمية: تم تأمين بوابات السور باستخدام عدة وسائل دفاعية مثل الأبواب الثقيلة والأقفال، إلى جانب مساقط الزيت التي توفر حماية إضافية.
سور ذو الثامنية أبواب
سور القدس العثماني يحتوي على 8 بوابات رئيسية، منها 6 تم تشييدها مع بناء السور العثماني، بالإضافة إلى بوابة جديدة تم فتحها في القرن الـ19. وهذه البوابات تتمثل في:
- بوابة الرحمة: تقع في الجدار الشرقي للمسجد الأقصى وتؤدي مباشرة إليه، وهي واحدة من أقدم البوابات في القدس، حيث يعود تاريخها إلى الفترة الإسلامية المبكرة. ومن المفارقات أن باب الرحمة قد أُغلق لأسباب دينية في العهد العثماني وتم استبدال أبوابه الخشبية بجدران حجرية ليصبح برج مراقبة، ولم يُستخدم قط خلال هذا العهد.
- بوابة العامود: تُعد البوابة الأكبر والأكثر تفصيلاً وجمالاً، وكانت البوابة الرئيسية للقدس من الشمال، وتربط الطريق الرئيسي للمدينة (اليوم طريق 443).
- بوابة الأسباط: تقع في الجهة الشرقية، وتتميز بتزيينها بتيجان أعمدة صليبية وأنيقة، وبعض الفتحات التي كانت نوافذ لكنيسة قديمة.
- باب المغاربة: يقع في الجدار الجنوبي.
- بوابة النبي داود: تقع في الجهة الجنوبية أيضاً، وهي تتميز بزخارف فنية رائعة، ومنها فتحات إطلاق نار، وتيجان أعمدة صليبية.
- بوابة الخليل: هي البوابة الوحيدة التي تقع في الجدار الغربي، وهي تزينها قوس داخلي مأخوذ من كنيسة صليبية.
- باب الساهرة: يقع بالقرب من باب العامود في الجدار الشمالي.
- بوابة جديدة: تم فتحها في القرن الـ19.
وقد كانت هذه البوابات مزينة بالعديد من التحف الحجرية المأخوذة من المباني القديمة في المدينة والمناطق المحيطة بها. على سبيل المثال، كانت بوابة النبي داود مزينة بتيجان أعمدة صليبية، وكانت بوابة الأسباط مزينة برمزين للفهود، وهي من رموز خان السلطان المملوكي الظاهر بيبرس.
كان من المعتاد إغلاق بوابات القدس عند غروب الشمس وفتحها عند شروق الشمس. وكانت المفاتيح في حوزة قائد الحامية العثمانية المقيم في القلعة. ولكن في أواخر القرن الـ19، عندما زادت الحركة من داخل المدينة إلى خارجها، تم ترك البوابات مفتوحة ليلاً ونهاراً ولم يعد لها أهمية دفاعية كبيرة كما كانت في الماضي.