لعلها لم تسنح لي الفرصة أن أعد الأيام كما يعدها سائر الناس ، بل ألجأتني مطرقة المسؤولية وسندان المحبة والأمومة أن أصنع لكما الأيام صنعا ، فأخلط من ملح الأمومة مع خميرة الأبوة و سكر التجربة مع دمعة فرح ودمعات الصبر حتى يصير يومكم يوما ذا طعم مستساغ بعد أن عبثت يد الأسر في أيامنا ونزعت منه طعم الفرح والوحدة والأمان .
أوغل الإحتلال يده في حياتنا محاولا أن يبقي على أشكالنا ظاهرها بما يدعم سرديته في إنسانيته ، ويذهب بجوهر ما تحمل العائلة من معنى ، ولكن كانت وما زالت يد الله فوق كل يد .
فلما كنت يا سلسبيل تجمعين بين المشي والكبو في أولى خطواتك وكنت يا شهادة جنينا في احشائي تتقلبين خلقا من بعد خلق ، سقى أبوكما بهندسته الإحتلال راحاً من رعب لم يستفق منه الإحتلال إلى يومنا هذا ، فراحت يد الأسر تعبث بمسمياتنا وصفاتنا على نية العقاب ، فأبقت على الزواج ونزعت الزوجية ، وأبقت على الأولاد ونزعت الأبوة ، وأبقت على أحجار البيت ونزعت منه روحه ، ثم ما تلبث قليلا حتى أتت على أحجار البيت ونقضته رأسا على عقب إمعانا في الظلم ومحاولة للحصار.
كانوا بذلك يطمحون أن نكون عبرة لمن يعتبر ، وان نكون مثالا لسوء عقاب ، فجعل الله تدبيرهم يدور عليهم ، وخيب ظنونهم…
إذ كان أسر والدكما فرصة ليكون إنسانا اتصاله الأوحد والأمكن مع الله ،فاكتسب المعية والخلوة مع الله ، ثم ألهم الصبر فأعطي البركة ،فكان تأثيره في الناس وهدايتهم لربما أضعاف ما كان ليكون عليه لو كان حرا طليقا تتلقفه الملهيات، هدم الاحتلال داره فأنشأ دارا لحفظ القران وتثبيته وتعليمه في داخل السجن للأسرى ، ودورا كثيرة أنشأها من داخل السجن جابت أقطارها أنحاء المعمورة شرقا وغربا .
وأراد الإحتلال أن يمحو ذكر أبيكما بسجنه فإذا بأبيكما يرفع ذكر الله في الأرض ، إذ يسر الله على يديه بهندسته وعبقريته إتمام ” مصحف الحفاظ” ، تلك الجوهرة الفريدة وواسطة عقد أعماله ، ومن ذكر الله ذكره الله ، فكيف بمن أعلى ذكر الله في الأرض ، أسأل الله أن يكتب له أجره ، وان يجزيه بذلك خيري الدنيا والآخرة .
وأراد الإحتلال ان يقطع صلة أبيكما بأهله ، فإذا به ينشئ من داخل سجنه علاقات ربطت جهابذة العلم الإسلامي في (أكاديمية الحفاظ ) فأوصل اندونسيا بموريتانيا وتركيا في اليمن …
نشأ ابوكما صالحا في بيت صالح، نشأ في طاعة الله متعلقاً بالله راغبا في جنته فسمى أحدكما سلسبيلا تسمية الله لعين في الجنة ، وسمى الأخرى شهادة شوقا لطريقه إليها.
وكان حثيث السعي دائم الحركة ، عبقريا جهبذا مجبولا في خلقه الشموخ والعزة ، فاصطفاه الله للأسر حتى يؤدي رسالة تكاد تكتمل بخروجه القريب باذن الله ، وكأنها رحلة عمل ، سفر فعمل حثيث فعودة مع الربح، ومن كانت تجارته مع الله فقد فاز فوزا عظيما ، ومن اجتباه الله لم ولن يضيعه الله .
ومن مظاهر تجلي قدرة الله ولطفه وكرمه وإنعامه وتدبيره فوق كل تدبير ، ومن تمام نعمه علينا أن رزق الرجل الصالح بالذرية الطيبة ، وحسن التربية ، فكان ابوكما الغائب جسدا الحاضر روحا وبركة وتربية ، وكنتما خير بذرة وخير خلف ، ولو أنه قدر للطاعة والرضى أن تكون شيئا ملموسا لما صورها الله الا على صورتكما ، إذ ما وقعت عينكما يوما على صفة من الأخلاق حميدة إلا أتقنتماها نعم الاتقان ، وكأنه فن تحترفانه.
ولقد استخلف الله الإنسان في الأرض لعمارتها ، وداوى أناس بعلم أناس آخرين إستمرارا للحياة على وجه البسيطة ، واستخلف حماة لهم يذودون عنهم حياض الردى يجاهدون الظلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وقد جمع ابوكما بذريته ذلك كله …
فأكرمك الله يا سلسبيلنا بعلم الهندسة حذوا على خطى ابيك وكفى بالمرء فخرا أن يشابه أباه ، ومن رحم الألم سخرك الله يا شهادة لمهنة التمريض لتكوني اليد الحانية على أوجاعنا وآلامنا ، وما أكثرها…
ولقد سبقت كلمة الله من زرع خيرا حصد خيرا ومن أمعن ناظرا وفرط في الزرع ندم يوم الحصاد .
وفي هذا اليوم ، يوم حصادنا زرعنا الدؤوب لسنوات طويلة بلياليها ، وبأيامها مضنيات القلوب ، يأتي علينا يوم الفرح بتخرجكما من كلياتكما مع مرتبات الشرف ولله الحمد والمنة ، تمتزج فيه الفرحة بتخرجكما غصة غياب والدكما جسدا رغم حضوره قلبا وروحا ووجدانا معنا في كل وقت وحين ، والشوق الى اللقاء ولم الشمل سيد الموقف .
مبارك لنا جميعا ، وأسأل الله لكما التوفيق والسداد ، وأن يرفع ذكركما وقدركما في الدنيا والآخرة ، ونحن إلى الفرج اقرب فأبشرا …