تُروّج أذرع الاحتلال الإسرائيلي لمشروع “الخدمة المدنية” في مختلف القرى والمدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، إضافة إلى القدس والجولان المحتلين عام 1967. وتُعرّف بأنها خدمة تطوعية لمصلحة الجمهور مفتوحة أمام كل من حصل على إعفاء من الخدمة العسكرية أو من لا يُستدعى إليها.
ويعود تاريخ الخدمة المدنية لعام 1953، لكن الاحتلال بدأ بتحويلها لمشروع وتطبيقها على الفلسطينيين ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية والبطاقة الزرقاء المؤقتة على حد سواء عام 2000.
وتُغري مديرية الخدمة المدنية المنتسبين إليها بمنحهم الامتيازات ذاتها التي يحظى بها الجنود المسرحون من جيش الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك المنح والقروض التعليمية ودفع مستحقات التأمين الوطني خلال سنوات الخدمة، بالإضافة لتقديم تسهيلات لقبول المجندين في الخدمة بالوظائف الحكومية والشركات الأمنية، تحت معادلة تقول بأن “الحقوق مقابل الواجبات” وليس من باب فرض العدالة والديمقراطية.
ويعمل من يلتحق بالخدمة في المستشفيات ومراكز صناديق المرضى وجهاز الإطفاء ومكافحة المخدرات وبعض المكتبات والمدارس والمجالس البلدية ومراكز الشرطة الجماهيرية، ويسعى الاحتلال جاهدا لنشر مشروع الخدمة المدنية في أوساط الشباب المقدسي تحت مصطلح “التجنيد”.
أهداف ومخططات
المحامي المقدسي أسعد مزواي، يشير في حديث خاص لـ “معراج” إلى أن الخدمة المدنية تأتي كتعويض عن الخدمة العسكرية للأقليات التي يطلق عليهم “مواطنين إسرائيل العرب”، وهم غير مجبرة على الخدمة العسكرية بالأساس، وهذا البديل غير قائم شرق مدينة القدس تحديداً لأن غالبية السكان لا يحملون الجنسية الإسرائيلية وإنما يتم تشجيعهم لأداها لاكتساب بعض الحقوق الإضافية.
وأوضح المحامي مزواي أن تأدية الخدمة المدنية تمكن الفلسطيني من الحصول على الحقوق التي يحصل عليها المؤدي للخدمة العسكرية، وفي القانون الإسرائيلي كل من يحمل الجنسية الإسرائيلية ملزم بتأدية الخدمة العسكرية، ولكن، على أرض الواقع سلطات الاحتلال لا تطالب العرب بالالتزام بالخدمة العسكرية لأسباب واعتبارات أمنية إسرائيلية.
وأكد مزواي على أن أحد الأهداف المعلنة لهذه الخدمة هو صهر المجتمع المقدسي بأجواء السيادة الإسرائيلية، وذلك عبر صهر حاجز الفصل أو الحاجز النفسي القائم بينه وبين المجتمع اليهودي أولاً، ثم تجاوز حاجز اللغة مع المدة، لافتًا إلى أن كل هذه الطرق تمثل نوع من التطبيع ومحاولة لصهر المجتمع المقدسي بالمجتمع الإسرائيلي وإعطاء صورة إيجابية لهذه المؤسسات بأنها متاحة للجميع.
كما نوه إلى أن الاحتلال يستهدف بقانون الخدمة المدنية الجيل ما بين 17 – 25 عاماً الذي يتشكل فيه شخصية هذا الشخص ويستطيع التأثير بشكل أكبر على شخصية هذا الجيل الذي تظهر عليه ملامح الاعتراض والانتقاد والتذمر حول السياسات والأفعال وما إلى ذلك.
وفي ذات السياق يشير الباحث في الشأن المقدسي ناصر الهدمي في حديثٍ خاص بـ “معراج” إلى أن الخدمة المدنية تقدمها سلطات الاحتلال في إطار نوع من الإغراءات التسهيلات للحصول على فرص عمل في مؤسسات دولة الاحتلال، وتستهدف بها الشباب من كلا الجنسين من عمر 17 حتى 25 عاماً الذين لم تتضح ملامح مستقبلهم الأكاديمي والمهني بعد.
وأوضح الهدمي أن خطورة هذه الخدمة تكمن في أنه تطبع العلاقة مع الاحتلال وتعطي شرعية لمؤسساته، سواءً في المجتمع المقدسي أو فلسطينيي الداخل ، فالاحتلال منذ اللحظة الأولى يحاول أن ينهي مشاعر العداء داخل المجتمع المقدسي باتجاه دولته ومؤسساتها، مشيراً إلى أن الدراسة في المدارس والجامعات العبرية هي إحدى المداخل الرئيسة لنظام الخدمة المدنية.
هل يتعاطى الشارع المقدسي مع هذا النظام؟
ويقول الهدمي: “رغم أن هناك جزء كبير من الشارع المقدسي ينظر نظرة سلبية باتجاه هذه المؤسسات بشكل خاص ولنظام الخدمة المدنية بشكل عام على اعتبار أنه مسخر لخدمة دولة الاحتلال ومجتمعه عبر تطبيق سياساته الاستعمارية في مدينة القدس، إلّا أن هناك جزء آخر يتعاطى مع هذه الخدمة بشكل إيجابي من منطلق “الانخراط” الذي يهدف من خلاله لتحقيق مستوى معيشي أفضل، ولغة أقوى، وفهم أعمق لسياسة الاحتلال، ليكون قادراً على الثبات في مدينة القدس ويواجه الاحتلال بشكل أكبر، مغفلاً أن ثباته هذا سيكون كإنسان “مادة” وليس “كفكر وهوية وعقيدة”.
واستشهد الهدمي بتجربة الفلسطينيين في الداخل المحتل في الانخراط بالحكومة الإسرائيلية والترشح لعضوية الكنيست، قائلاً: “اليوم فقد فلسطينيي الداخل موقعهم في الكنيست بسبب السؤال المطروح بشكل كبير مؤخراً حول جدوى الوجود داخل هذه الحكومة والترشح لهذه الانتخابات، لافتاً إلى أن مجرد طرح هذا السؤال يدلل على أننا نتقدم باتجاه وطني ممتاز، وأن ما سعى الاحتلال لتنفيذه في مجتمع الداخل بدأ يثبت فشله، لأن فلسطينيي الداخل أصحوا اليوم يطالبون بحقوق وطنية أكثر من مطالبتهم بحقوق مدنية وإنسانية.
ولفت الهدمي إلى أن هذه الخدمة تتوافق تسعى لكسر الجليد بين الشعب الفلسطيني “الواقع تحت الاحتلال” وجلاده الذي يمثل حكومة دولة الاحتلال ومؤسساتها، مشدداً على أن الاحتلال رغم كل ما يحاول أن يتجمل به لم يستطع أن يتخلص من عنصريته وعداءيته التي بقيت ملازمة له في كل شؤونه والتي بدورها ولدت نوع من التحدي والرفض داخل الشارع المقدسي.
واستدرك الهدمي: “البعض يحاول أن يعطي صورة أيدولوجية متفائلة عن الأحداث في مدينة القدس، لكن أن أرى أن ما يحدث في مدينة القدس بعيد كل البعد عن الأيدولوجيا، والذي أثر على تشكيل ما يجري في مدينة القدس عناصر اجتماعية وسياسية وبيئية، مما يصعب عملية التنبؤ بمستقبل الوضع في المدينة لأن مفاجأتها كثيرة وعلينا ألا نقلل من قيمة الشباب العادي الغير مؤطر بل على العكس هم اليوم التيار الأقوى”.