اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى المبارك كيف بدأت وإلى ما ترمي، أهدافها وأبعادها السياسية والدينية، مراحل تطورها والسياسات التي أفرزتها على مدار تلك السنوات العجاف، كل هذه المحاور وغيرها ناقشتها “معراج” عبر هذا الحوار الذي أجرته مع نائب مدير عام الأوقاف الإسلامية في القدس ورئيس أكاديمية الأقصى للعلوم والتراث الدكتور ناجح بكيرات.
س: ما الهدف الأساسي الذي يسعى المستوطنون وخصوصاً المتطرفين منهم لنيله من وراء هذه الاقتحامات؟
ج: هذه الاقتحامات هي سياسة ممنهجة لها أبعاد استراتيجية تهدف في ضوئها لخلق واقع جديد في الأقصى وحضور ديني وديموغرافي للرموز اليهودية المزعومة، إضافةً إلى إنهاء الحضور الإسلامي بقداسته ومعماريته عبر السعي لإنشاء الهيكل وبالتالي إنهاء القضية الفلسطينية وكل ما هو إسلامي عربي في هذه المنطقة في سياق بناء مشروع الدولة اليهودية.
س: كيف بدأت الاقتحامات وكيف تطورت ؟
ج: بدأت الاقتحامات سابقاً بشكلها البسيط حيث كان يتراوح عدد المقتحمين ما بين ثلاثة إلى خمسة، يمرون عبر فترات الزيارة التي تقع ما بين الساعة (7-11) صباحاً والساعة (1-2) ظهراً، يتجولون برفقة السياح والأجانب، وكان حراس الأقصى يتولون مهمة مرافقة هؤلاء السياح ومن بينهم المستوطنين المتطرفين، وإذا ما صدر منهم أي تصرفٍ مشبوه كانوا يخرجونهم على الفور، والجدير ذكره هنا أن المستوطنين كانوا يتجولون بالأقصى برفقة السياح والزوار الأجانب من باب الاطلاع على الحضارة الإسلامية وليس أداء صلوات أو طقوس معينة، فالصلوات التلمودية الحقيقية للمستوطنين اليهود لا تعقد إلا بعدد يتجاوز الـ 10 أفراد.
هذا الشكل من الاقتحامات كان متعارف عليه منذ عام 1818 وقبل ذلك أيضاً، فكان السياح والزوار الأجانب ومنهم اليهود يدخلون الأقصى عبر باب المغاربة ويرافقهم الحراس وتبقى جولاتهم وحركاتهم بأمرٍ من الحراس فقط ويتم التعامل معهم على أنهم زوار ، وبقيت الاقتحامات على هذا الشكل حتى اقتحام شارون للمسجد الأقصى عام 2000 فتحولت آنذاك إلى اقتحاماتٍ سياسية ودينية ممنهجة، يقودها أعضاء الكنيست وزعماء الاستيطان والمتطرفين الذين كان يجندهم ما يسمى بـ “اتحاد منظمات جبل الهيكل” الذي يضم أكثر من 35 منظمة صهيونية، وصلت حدودها في السيطرة داخل المجتمع الإسرائيلي بشكل جعلها تقود حكوماتٍ وتسيرها أو تطيح بأخرى إن لم تستجب لمطلباها، فهذه الجماعات تمثل ما نسبته 85 % من المتطرفين اليمينيين داخل المجتمع اليهودي، فأصبحت تملك أذرع في الجيش والمحاكم والشرطة والوزارات، الأمر الذي انعكس على حماية وتأمين هؤلاء المتطرفين أثناء اقتحاماتهم عبر يد هذه المنظمات الطائلة في الجيش والشرطة.
س: ماذا كان دور الأوقاف الإسلامية أمام كل هذه الانتهاكات والجرائم؟
ج: أمام هذا الواقع حاولت الأوقاف الإسلامية بالأقصى المبارك أن تغلق المسجد وتوقف هذه الزيارات بشكلٍ كامل بعد اقتحامات شارون له وارتكابه للمجزرة، واستطاعت أن تغلق المسجد أمام هذه الاقتحامات عاماً كاملاً لم يدخل فيه أي مستوطن من باب المغاربة الذي بقي مغلقاً طيلة هذا العام أو يزيد، وبعد ذلك قررت الحكومة الإسرائيلية فتح باب المغاربة الذي كانت تمتلك مفاتيحه دوناً عن باقي الأبواب التسعة التي تملك مفاتيحها الأوقاف، واستغلاله للاقتحامات متى شاءت.
يوماً بعد يوم تطورت الأمور بشكلٍ جعل دولة الاحتلال تحاول أن تفرض سيادة أمنية لها داخل المسجد الأقصى المبارك، بعد أن كانت حدود وصلاحيات قواتها الشرطية لا تتعدى أبواب المسجد ولم تكن تقدم على شيء دون التنسيق مع إدارة الأوقاف، وصلت اليوم إلى ما وصلت إليه عبر فرضها دخول قواتها للمسجد بالقوة التي لم يفلح معها رباط المقدسيين ولا تصديهم ولا كل محاولات إيجاد ما يسمى بـ “مساطب العلم” وإعادة فكرة الرباط بالأقصى ما بين عام 2011 – 2015 إلى أن قمعت بالقوة، وبعد أن كان حراس الأقصى هم من يسيطرون على عمليات الاقتحام تم التخطيط لإنهاء دور الحراسة بالمسجد نهائياً، ففي بداية الأمر تم استثنائهم وأصبحوا يسيرون خلف شرطة الاحتلال، ثم إبعادهم مسافات لا تقل عن 20 متراً عن مسار المقتحمين وصولاً إلى تجريدهم من أي دور يمثل تدخلا باقتحامات المستوطنين، هنا حيث أصبحت الشرطة هي وحدها من تملك قرار الاقتحام بكافة تفاصيله.
بدأت دولة الاحتلال بعد ذلك بالسعي لانتزاع الوصاية الأردنية عن المسجد الأقصى عبر دعوات زعمائها لامتلاك وصاية إسرائيلية مطلقة، وحال دون ذلك حينها الضغط الدولي الذي مورس على “إسرائيل” باعتبار أنها وقعت على اتفاقيات دولية تقر بالوصاية الأردنية على الأقصى، وسعت “إسرائيل” حينها للتنصل من كل هذه الاتفاقيات والعودة إلى الوضع التاريخي لما كان عليه الأقصى قبل عام 1967.
س: ماذا أفرزت منهجية الاقتحامات بالمسجد الأقصى في سياق “الأمر الواقع”؟
ج: في البدايات انتهجت “إسرائيل” سياستي القمع بالقوة وحماية وتأمين المقتحمين الصهاينة بوحدات الشرطة المدججة بالسلاح، ولكن مع نهاية عام 2001 ومطلع عام 2002 بدأت إسرائيل بانتهاج سياسة ثالثة في باحات الأقصى، ألا وهي (سياسة الإبعاد عن المسجد الأقصى المبارك) والتي جاءت نتاجاً لمنهجية الاقتحامات المتكررة التي يتبعها الاحتلال، وكانت هذه السياسة تستند لقانون الطوارئ الانجليزي لعام 1936 والذي جددته “إسرائيل” في عام 1949 و1956 والذي كان يعطي الصلاحية لحاكم القدس أو “وزير الأمن” حسب تسميتهم آنذاك بإبعاد أي شخص يجد في أن وجوده يشكل خطرا يهدد أمن الدولة، آنذاك كان قرار الإبعاد يصدره وزير الأمن الداخلي ثم أصبح بعد ذلك يصدر عن “ضابط الحرم” أو “قائد القدس” إلى أن وصلت هذه الصلاحية ليد أي شرطي متواجد في المنطقة يجد في إبعاد أي فلسطيني مصلحة له.
الناظر إلى المشهد من بعيد يجد أن سياسة الإبعاد هي عملية تدشين للاقتحامات الصهيونية المتكررة، حالها حال مسلسل تقييد الأوقاف الإسلامية وتقييد الحراس وتقييد المرابطين وفرض القرارات والسياسات المتعلقة بالأقصى بقوة السلاح والجيش، ورغم كل الأهداف الدفينة التي تكمن وراء هذه السياسات ولعل أبرزها كيّ الذاكرة الفلسطينية وترويض فكرة وجودهم في هذه البقعة، إلا أننا نجد وعياً فلسطينياً متنامياً يدرك أن هذه الاقتحامات ما هي إلا تأسيس لواقع قداسة يهودية بالمسجد الأقصى، ويقف في وجه كل هذه المحاولات والمساعي الصهيونية التي تهدف إلى محو الوجود الفلسطيني ويعبر عنها يومياً كما عبر عنها في هبة الأسباط وباب الرحمة والبوابات الإلكترونية وغيرها.
س: إن كان اقتحام الأقصى هو من الطقوس الدينية اليهودية، لماذا نشهد خلافاً في الأوساط اليهودية حول هذا الأمر تحديداً؟
ج: الأمر البالغ الأهمية والجدير ذكره هنا في هذا الباب تحديداً، هو أن هناك ما نسبته 95% من اليهود في كل أماكن تواجدهم في العالم لا يؤمنون ولا يقبلون باقتحام المسجد الأقصى أو السير فيه على الإطلاق، لاعتقادهم بأن “الكلمات العشر” موجودة داخل ساحات الأقصى، ولا يجوز لأي يهودي أن يدوس بقدميه على تلك الكلمات، ومنهم من يحرم ذلك لعدم جواز دخول أي يهودي لمكان غير مطهر وحتى يطهر هناك طقوس معينة حسب معتقداتهم وأفكارهم التوراتية.
ولكن الساسة الإسرائيليين والمتطرفين منهم يرفضون هذه الفتوى لأنها لا تخلق وجوداً لليهود داخل الأقصى وإنما تبقيهم خارجه أو على أطرافه، ولذلك نجد أن هذه الفتوى تتعرض للتحريف يوماً بعد يوم على ألسنة حاخاماتٍ متطرفة لتلائم مخططات ساسة الاحتلال، وهؤلاء الحاخامات هم من الجيل الثالث الذين لم تتبناهم الدولة رسمياً بعد، أما الجيل الأول منهم فرفض تغيير هذه الفتوى رفضاً قاطعاً، بينما من الجيل الثاني نجد أن ما نسبته 10% فقط قبلوا بتغييرها، أما الجيل الثالث فنجد أنه هو من يطالب بتنفيذ هذه الاقتحامات، وما يثير القلق أن انقلاب هذه الفتوى مع الزمن سيجعل أعداد المقتحمين يفوق الآلاف يومياً.
س: آلية الاقتحامات ومساراتها كيف تطورت وعلى ماذا كانت تستند في طبيعتها؟
ج: بدأت مسارات المقتحمين تتطور وتتغير في المسجد الأقصى المبارك وفقاً لتحريف وتغير الفتوى السالفة الذكر، ففي بادئ الأمر بعد أن كان الاقتحام محرم بكافة أشكاله وكافة مساراته بدأ البعض يحلل المشي على أطراف السور، ثم تطورت الأمور أكثر فأصبح المكان المسموح بالمشي فيه هو محيط الهيكل وحول صحن قبة الصخرة، ومنهم من نجده ينادي الآن بأن كل المسارات مسموحة باستثناء قبة الصخرة، وكل هذه المسارات يعتبرها المسلمين هي انتهاك لحرمة وقدسية المسجد الأقصى المبارك كيفما كانت صورتها.
حكومة الاحتلال حاولت مراراً إثبات أن ساحات الأقصى هي ساحات بلدية يحق لأي أحد دخولها وممارسة ما شاء فيها من الطقوس والشعائر، وأن الأماكن المقدسة هي فقط المساجد كالمصلى القبلي والمرواني وقبة الصخرة، وبناءً على ذلك اتخذت دولة الاحتلال ممثلة ببلدية القدس الاحتلالية قرار عام 1971 بأن ساحات المسجد الأقصى المبارك جميعها ساحات عامية يحق لأيٍ كان أن يفعل بها ما يشاء حالها كحال أي ساحة عامة أو بستان.
س: كيف ينظر الفلسطينيون خاصة والمسلمون عامة إلى الاقتحامات عموماً وهيئتها خصوصاً؟
ج: ويرى المسلمون أن كل ما أحاط عليه سور المسجد الأقصى هو مقدس سواءً أكان مسقوفاً أم غير مسقوف، حجراً أم شجراً، ولا فرق عندهم بين الساحة الشرقية عند باب الرحمة وبين محراب المسجد الأقصى، وبالتالي هذه الاقتحامات مرفوضة وكل من يشرع هذه الاقتحامات هو يسير نحو إشعال حرب دينية في المنطقة وربما في العالم.