بقلم: حسن أبو هنية
منذ بدء عملية “طوفان الأقصى” التي أطاحت بركائز الأمن القومي الإسرائيلي، شنت المستعمرة الصهيونية حرب إبادة على غزة في محاولة يائسة لاستعادة قوة الردع. وخاضت إسرائيل الحرب دون وجود خطة استراتيجية بأهداف محددة واضحة، ولم تتمكن من تحقيق الأهداف المعلنة للحرب باستعادة الرهائن والقضاء على حركة حماس. وبعد دخول الحرب شهرها الثامن لا تزال إسرائيل تتخبط في حرب الإبادة دون تحقيق أي إنجاز عسكري استراتيجي يذكر، وكلما تعمّق فشل القيادة الإسرائيلية اخترعت مبررات وأسباب واهية للعجز عن إنهاء الحرب، وبعد أن استنفدت حكومة نتنياهو الفاشية المتطرفة ترسانة الكذب والتضليل؛ علّقت أسباب الفشل والعجز عن تحقيق نصر حاسم على المقاومة باعتراض دول العالم على عملية اجتياح مدينة رفح في جنوب قطاع غزة.
أصبحت رفح الشماعة المفضلة التي تعلق عليها إسرائيل ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أسباب الفشل، فالدعاية الإسرائيلية تصر على أن قيادة حماس، إلى جانب أربع كتائب من المقاتلين، متمركزة في رفح، وتحتجز الرهائن هناك، وأن العملية البرية في رفح ضرورية لتحقيق “النصر الكامل”، حيث باتت رفح متلازمة من هوس نتنياهو الذي اعتاد تكرار التهديد باجتياحها للتخلص من الضغوطات النفسية التي باتت تحاصره والمصير المحتوم الذي ينتظره لحظة الإعلان عن وقف الحرب. فقد أعلن نتنياهو أربع مرات على الأقل خلال الشهرين الماضيين عن اقتراب العملية العسكرية البرية على المدينة المكتظة بالسكان والنازحين، وجرى تضخيم معركة رفح وكأنها المعركة الأخيرة الحاسمة التي يخوضها الاحتلال مع دولة عظمى، وكأن حرب الإبادة المتواصلة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ليست سوى بروفة للتحضير للمعركة الكونية الكبرى.
وبعد ساعات من إعلان حركة حماس الموافقة على الورقة المصرية-القطرية لوقف إطلاق النار؛ أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي في 7 أيار/ مايو سيطرة وحدات من قواته على الجانب الفلسطيني من معبر رفح البري. وكان مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد أعلن في بيان له في 6 أيار/ مايو، أن المجلس الوزاري المصغر لشؤون الحرب أوعز إلى الجيش الإسرائيلي بالعمل في رفح، مشيرا إلى أن العملية في رفح تخدم هدفين رئيسيين للحرب، وهما إعادة المختطفين والقضاء على حماس، وأضاف بيان مكتب نتنياهو أن مجلس الحرب الإسرائيلي قرر أن ورقة حركة حماس “بعيدة للغاية عن المطالب الإسرائيلية الضرورية”.
لا جدال في أن معركة رفح مجرد عملية عسكرية تكتيكية توفر فرصة لنتنياهو للهروب إلى الأمام، وتوفر له بعض الوقت للحفاظ على تماسك حكومته، وفرصة البحث عن حيل جديدة وذرائع مقبولة، وهو ما تدركه الولايات المتحدة جيدا ولذلك تعارض بشدة عملية رفح. فقد ذكر البيت الأبيض في 10 أيار/ مايو 2024 أنه لا يرى أي مؤشر على عملية إسرائيلية “واسعة النطاق” في مدينة رفح، لكنه أكد أن الإدارة الأمريكية تراقب الوضع “عن كثب وبقلق”. وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي للصحفيين: “لن أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول إن ما رأيناه هنا خلال الـ24 ساعة الماضية يشير ضمنا أو يشير إلى عملية برية كبيرة”، وأضاف أن القوات الإسرائيلية الموجودة في المنطقة “متمركزة هناك منذ البداية، ومع ذلك فإننا نراقب الأمر بقلق”، وتابع: “في كل يوم يصبح فيه معبر رفح غير متاح وصالح للاستخدام لإدخال المساعدات الإنسانية، سيكون هناك المزيد من المعاناة، وهذا يثير قلقنا العميق”.
شكّل رد حركة حماس على مشروع الهدنة صدمة لنتنياهو الذي راهن على رفضها، فالمقترح القطري والمصري في حقيقته كان مقترحا أمريكيا إسرائيليا، ولم تُدخِل حماس وقوى المقاومة سوى تعديلات محدودة على المقترح؛ تشدد على ضبط المصطلحات وتؤكد على جدية الضمانات، لكن نتنياهو أصر على الذهاب إلى رفح دون خطة عسكرية أو أفق سياسي للبحث عن صورة نصر لا أساس له.
وتساءل الصحفي الإسرائيلي المعروف جدعون ليفي في مقالة نشرها في صحيفة “هآرتس” عن حقيقة نوايا نتنياهو، فمن الصعب معرفة كيف يفكر نتنياهو إن كانت قراراته تتعلق بإرضاء شركائه في الائتلاف، أو إن كان فعلا يعتقد أن اجتياح رفح سيحقق النصر، حيث هدد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير مؤخرا الحكومة، بحسب موقع “بولتيكو” الأمريكي، قائلا: إذا قرر رئيس الوزراء إنهاء الحرب دون شن هجوم كبير على رفح لهزيمة حماس، فلن تكون لديه تفويض للاستمرار في منصبه، وإذ خسر نتنياهو دعم بن غفير، فإن حكومته ستنهار مما يؤدي إلى انتخابات من المرجح أن يخسرها.
وقد لخص الكاتب الإسرائيلي بن كاسبيت في مقالة في صحيفة “معاريف” العبرية حالة الاختلال والإخفاق بالقول: لقد بدأ الجيش أمس الاستعدادات للعملية في رفح. إذا سألتم الجيش ما الذي يريده المستوى السياسي منه، فإن الجيش لن يعرف كيف يجيب، وكذا المستوى السياسي لا يعرف. لأشهر وهم يتحدثون عن هذه العملية، اقوال مثل الرمل ولا شيء للأكل. في النهاية، اختاروا المقاس الأسهل الاخف كي يرفعوا شارة النصر كي يكون ممكنا الإعلان عن النصر. وحتى هذا ليس واضحا، ليس مؤكدا وليس مستقرا. هكذا هو الحال عندما لا تكون خطة استراتيجية مرتبة، عندما لا يكون هناك هدف محدد ودقيق، عندما لا يكون هناك سعي مرتب لنتيجة ما أو نهاية فعل بتفكير مسبق. كل ما يوجد هو ارتجال متواصل، مراوحة مستدامة وقدر لا ينتهي من علامات الاستفهام”.
وقد وصفت الإعلامية الإسرائيلية رافيت هيتشيت من صحيفة “هآرتس” بسخرية بالغة؛ هذا الاجتياح بـ”المغامرة التي يقودها جيش أشرف على كارثة فظيعة وحرب فاشلة”، وقالت ساخرة: “حكومة الحرب الإسرائيلية لديها جدول أعمال مزدحم بالحروب، فرفح أولا، ثم حزب الله، ثم إيران، لكن بنك الأهداف يا للأسف لم يشمل روسيا والصين”.
إن تسليط الضوء على رفح يهدف إلى تشتيت الانتباه وتفتيت الصراع وتحقيق صورة نصر، وقد يساعد هذا نتنياهو الذي أخبر بلينكن بحسب مجلة “تايم” الأمريكية صراحة في الشهر الماضي بأن إسرائيل ستدخل إلى رفح بموافقة الولايات المتحدة أو بدونها. ونحن لا نعرف ما الذي يدور في رأس نتنياهو حسب جدعون ليفي، لكننا نعلم أن إسرائيل لا تستطيع اجتياح رفح دون دعم الولايات المتحدة، فإسرائيل رغم إعلانها السيطرة على الشمال لا تزال تقصفه برا وبحرا وجوا، ويتعين عليها القيام بعمليات متكررة لمنع حماس من إعادة تجميع صفوفها، وعليها إحباط الكمائن والهجمات على قواتها التي قال الجيش الإسرائيلي إنه يتوقع استمرارها في شكل حرب عصابات في جميع أنحاء القطاع لسنوات مقبلة، وعليها أيضا، وبشكل أساسي، تفكيك سلطة حماس إداريا.
ويبدو أن هذا لا يزال بعيد المنال في هذه المرحلة، بعد مرور سبعة أشهر على الحرب، حيث نقلت صحيفة “إسرائيل اليوم” في 11 أيار/ مايو الحالي عن مصادر في جيش الاحتلال الإسرائيلي قولها إن حركة حماس أعادت تنظيم قواتها بحي الزيتون وسط قطاع غزة، مشيرة إلى أن ذلك يعرض قوات الجيش في محور نتساريم للخطر، في حين أعلنت فصائل المقاومة استهداف قوات إسرائيلية في مناطق مختلفة. وقالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية إن حركة حماس ستبقى في رفح حتى لو شن الجيش الإسرائيلي عملية واسعة النطاق في المدينة برمتها، مضيفة أنه لا توجد حلول سحرية للتأثير على حماس.
إن محاولة تسويق صورة للنصر في غزة يتناقض مع مقومات مفهوم النصر الإسرائيلي، بينما يتطابق مع مفهوم النصر عند المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، فمفهوم النصر يشكل أحد الأسس الأربعة التي تقوم عليها عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، إلى جانب الردع، والإنذار المبكر، والدفاع، حيث تميز العقيدة الإسرائيلية بين أربعة أنواع من النصر وهي: النصر التكتيكي بإبطال قدرات العدو القتالية، النصر العملياتي بتفكيك نظام القتال للعدو من خلال سلسلة من الاشتباكات أو المعارك، والنصر العسكري الاستراتيجي بإزالة التهديد العسكري لسنوات قادمة، والنصر النظامي بتغيير الوضع الاستراتيجي بشكل أساسي سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
وثمة إجماع على أن إسرائيل عاجزة عن تحقيق نصر نظامي، بإحداث تغيير جوهري في وضعها الاستراتيجي، من خلال إزالة التهديد الذي تفرضه حماس. فالنصر النظامي لا يتحقق من خلال الوسائل العسكرية فحسب؛ بل يتطلب إجراءات سياسية ومدنية واقتصادية تؤدي تدريجيا إلى تغيير في المنطق الكامن خلف سلوك حماس، والذي يتطلب إضعاف الحاضنة الشعبية الداعمة لحماس والمقاومة، وهو ما فشلت فيه الآلة العسكرية والمؤسسة السياسية الإسرائيلية.
أما مفهوم النصر لحركة المقاومة والتحرير فيقوم على أسس مختلفة، تستند إلى الصمود ودعم الحاضنة الشعبية. فحركة حماس، باعتبارها حركة مقاومة، تركز على عنصر بسيط وهو الصمود والبقاء، وقدرة الحركة على إعادة بناء بنيتها التحتية العسكرية والمدنية، وإدارة المقاومة والرأي العام، وممارسة النفوذ على حكم غزة ما بعد الحرب، ولذلك تخوض حماس باقتدار مفاوضات صعبة مع إسرائيل بشأن الرهائن، بما في ذلك المطالبة بضمانات أمريكية لوقف إطلاق نار دائم والانسحاب الإسرائيلي من غزة.
تدرك الولايات المتحدة الأمريكية التي تشارك في حرب الإبادة من خلال الدعم العسكري والمالي والسياسي استحالة تحقيق نصر استراتيجي نظامي لإسرائيل من خلال عملية رفح، ولذلك فقد رفضت أي عملية عسكرية دون خطة واضحة ومقنعة، ليس بسبب الخشية من قتل المدنيين، بل لعدم توافرها على فرص النجاح وآثارها الجيوسياسية المدمرة.
فحسب الرؤية الأمريكية قد تتسبب عملية اجتياح رفح بالإضرار بمصالحها وأمنها القومي، وفي نفس الوقت سوف تلحق الضرر بأمن إسرائيل بدلا من أن تعززه على المدى القصير والطويل، لأنها ستؤدي إلى تنفير أحد أقدم شركاء إسرائيل في العالم العربي وهي مصر، وتدمر ما عملت عليه واشنطن لإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال اتفاقات التطبيع مع العالم العربي، ويقضي على فرص اتمام اتفاقية التطبيع بين إسرائيل والسعودية. وتنظر واشنطن إلى عملية رفح كخطوة متهورة تقوض أي نصر استراتيجي في سبيل تحقيق بعض الفوائد التكتيكية أو العملياتية.
ولذلك، أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على تعليق شحنة قنابل قوية لإسرائيل بالتزامن مع شن الجيش الإسرائيلي عمليات جديدة في مدينة رفح المكتظة بالسكان والنازحين من قطاع غزة، في خطوة تهدف للضغط على إسرائيل، حيث قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، إن قرار الرئيس جو بايدن تعليق شحنة ذخائر شديدة الانفجار إلى إسرائيل اتُخذ في سياق خطط إسرائيل شن هجوم في رفح تعارضه واشنطن من دون ضمانات جديدة على حماية المدنيين. وتتكون الشحنة من 1800 قنبلة تزن 900 كيلوغرام، و1700 قنبلة تزن 225 كيلوغراما، بحسب المسؤول الذي تحدث لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
يعلم الجميع إن إسرائيل جزء من مشروع غربي بقيادة الولايات المتحدة، وأن الكيان الاستعماري الصهيوني لا يصمد أكثر من شهر دون الدعم الغربي والأمريكي، وتتشارك هذه القوى مع إسرائيل هدف القضاء على حماس والمقاومة واستعادة الرهائن، ولذلك تسعى أمريكا إلى وقف الحرب وتعتقد أن ثمة طرق أخرى لتحقيق أهداف الحرب دون اجتياح رفح، وحتى ألمانيا المتماهية مع سرديات المستعمرة انتقدت بشدة عملية رفح.
ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تستند إلى رؤية استراتيجية تقوم على مفهوم استراتيجي قديم طرحه مُنظِّر الحرب البروسي، كارل فون كلاوزفيتز، حول ما يسمى بنقطة الذروة للنصر باعتبارها الخط الذي يصبح بعده التقدم العسكري هدّاما على المستوى السياسي، عندما يواصل الطرف المتحارب، بعد أن تجرفه القوة الهجومية، الضغط على تقدمه إلى ما بعد نقطة معينة، دون أن يدرك أن كل خطوة إضافية تعرض المكاسب للخطر، وتتضاءل احتمالات تحقيق السلام بشكل جذري.
خلاصة القول أن عملية اجتياح مدينة رفح تكشف عن مسارات فشل المستعمرة الاستيطانية بعكس التاريخ واستعادة قوة الردع التي أخفقت بعد عملية “طوفان الأقصى” وتآكلت بهزيمة استراتيجية مدوية، وتفضح الطغمة الحاكمة وحساباتها الشخصية الضيقة بتداخل الذاتي بالموضوعي والشخصي بالسياسي في إسرائيل، حيث تذهب حكومة نتنياهو الفاشية المتطرفة إلى رفح دون وجود أفق عسكري وسياسي لتحقيق نصر استراتيجي نظامي، وتعمل على شراء الوقت للبقاء في السلطة والحكومة من خلال عملية تكتيكية تراوح مكانها. وإذا كانت حكومة الحرب الإسرائيلية عجزت عبر حرب الإبادة طوال أكثر من سبعة أشهر عن مواجهة حركة مقاومة محاصر وبإمكانات محدودة، فإن قرار الذهاب بعيدا في مغامرة رفح سوف يقوض أي مكاسب ممكنة، ويجعل من مقولة تحقيق نصر حاسم على المقاومة خرافة مكتملة الأركان.
وتدمر عملية رفح مساعي الولايات المتحدة والغرب على مدى عقود لإدماج المستعمرة الصهيونية في المنطقة واستكمال مسار تصفية القضية الفلسطينية من خلال التطبيع.
وإذا كانت معايير النصر تتفاوت بين المفهوم الاستعماري ومفهوم المقاومة، فإن الاستعمار الصهيوني فشل في تحقيق نصر استراتيجي نظامي، بينما نجحت المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس بإنجاز نصر من خلال الصمود والتفاف الحاضنة الشعبية، حيث جلبت حماس القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام في المنطقة وعلى المستوى الدولي، وكشفت نقاط ضعف المستعمرة الإسرائيلية، وألحقت الضرر بقدرتها على الردع، وأوقفت مسار التطبيع مع السعودية، وأصبحت حماس وبقية فصائل المقاومة تتمتع بدعم واسع النطاق في الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي، ودشنت نموذجا إرشاديا للأجيال الشابة في فلسطين والمنطقة للتخلص من الاحتلال، ومقاومة الدكتاتوريات المتواطئة ومناهضة الإمبرياليات المساندة لحرب الإبادة.