بقلم/ داود كتّاب
مع مرور 30 عاماً على توقيع اتفاق المبادئ بين منظمّة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في واشنطن، في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، هناك تنافس شديد حول أي قطاع أو منطقة كانت الأكثر تضرّراً من هذا الاتفاق الذي جرى التوافق عليه بسرّية حتى من المشاركين في المفاوضات العلنية بالعاصمة النرويجية أوسلو. يكرّر كثيرون أن غياب بندٍ بتجميد الاستيطان، والذي تضاعف ثلاث مرّات منذ التوقيع، وعدم وجود وضوح حول الصفة القانونية لوضع الأراضي المحتلة قد يكون أسوأ مخرجات “أوسلو”، إلا أن منطقة جغرافية عانت وتعاني الكثير من “اتفاقية أوسلو”.
ليست معاناة القدس والمقدسيين محصورة بقرارات مفاوضي منظمة التحرير والقرارات الإسرائيلية، بل تعدّت ذلك، لتكون المدينة وأهلها ضحية حكومات فلسطينية متتالية أهملت ما يُشار لفظياً إليها بأنها العاصمة المستقبلية لدولة فلسطين، من دون أي ترجمة حقيقية لما تحتاجه هذه العاصمة، أو حتى أي مدينة فلسطينية مماثلة تحت الاحتلال. فلم تمنح الحكومات الفلسطينية المتعاقبة القدس الشرقية الأولوية التي تحتاجها، فهناك إجماع على أن اللوم على الجميع، بما في ذلك الفصائل الوطنية والإسلامية والقيادات المحلية.
ومع غياب المرحوم فيصل الحسيني، وإغلاق الاحتلال بيت الشرق وغرفة التجارة المقدسية، تم بتر أي فرصة لبروز قيادة أو استراتيجية تتعامل مع الواقع الأليم الذي نتج عن هذه الاتفاقية المشؤومة. ومن الواضح أن القدس تفتقر إلى القيادة وإلى استراتيجية عملية، رغم أن المقدسيين قبل “أوسلو” ومؤتمر مدريد كانوا ومدينتهم محور كل التخطيط، ولكن ذلك كله اختفى.
يصف المقدسيون أنفسهم بأنهم أصبحوا يتامى سياسيين، في إشارة إلى التدمير الممنهج للقيادة السياسية المقدسية عن قصد أو غير قصد. قَبل معظمهم وظائف إدارية في الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، وفي منظماتٍ تتخذ من رام الله مقرّاً لها، وفي غياب أي أفق سياسي، أصبح كثيرون من أهل القدس يشعرون بالقلق بشأن مستقبلهم.
كما تلقى المجتمع المدني المقدسي ضربة موجعة، بسبب عملية أوسلو، فعلي الرغم من أن الفلسطينيين تحت الاحتلال قبلها كانوا نشطين في إنشاء شبكة من المنظمّات التي سدّت فجوة عدم وجود دولة، فإن وجود شبه دولة نقل الاهتمام من المجتمع المدني إلى مكاتب بيروقراطية لم تشمل رقعة أعمالها القدس والمقدسيين. كما تشتكي ناشطات وناشطين من المجتمع المدني في القدس من استبعاد قضايا المرأة والشباب في القدس من النقاش الوطني، فغالبية الموارد التمويلية انتقلت إلى منظمّات في المناطق الفلسطينية خارج القدس.
الدمار الذي خلّفته اتفاقيات أوسلو على القدس واضح في جميع القطاعات: الإسكان والتعليم والأعمال والسياحة والتماسك الاجتماعي. يعترف المقدسيون، على مضض، بأن الاحتلال نجح في قطع رأس أي جهدٍ يهدف إلى إيجاد قيادة سياسية محلية مرتبطة برام الله، ولكن اللوم ليس محصوراً في الاحتلال، بل أصبحت قيادات محلية عديدة توجّه أصابع الاتهام للقيادة الفلسطينية.
خفّضت القيادة الفلسطينية، بشكل واضح، القدس من أولويتها، على الرغم من تقديم الدعم الخطابي للمدينة، فيصف رئيس صندوق إعمار القدس، سامر سنجلاوي، أنه في حين يمثل 400 ألف فلسطيني هم سكان القدس الشرقية 8% من سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أنهم لم يحصلوا أبداً على ما يقرب من تلك النسبة في الميزانية السنوية للحكومات الفلسطينية المتعاقبة، والتي تبلغ في المتوسط حوالي ستة مليارات دولار. وبحسب سنجلاوي، سيبلغ ذلك 180 مليون دولار سنوياً. ويفيد السنجلاوي بأن 35% من الميزانية الفلسطينية تذهب لرواتب الأمن، منهم 1500 شخص يعيشون في القدس الشرقية، ويعملون لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية. قد يكون صرف تلك المبالغ أكثر جدوى، لو جرى التوافق عليها من خلال مؤسسات دولية، مثل UNDP، تعمل في القدس، أو من خلال توجيه جزء من المعونات الدولية المخصصة للسلطة لصرفها بصورة مباشره لصالح المقدسيين.
يحتل الإسكان قمّة القطاعات المتضررة من هذا التجاهل، فالبنوك الفلسطينية غير قادرة على العمل في القدس، وبلدية الاحتلال في القدس ترفض إقرار خرائط سكان القدس الشرقية، وتضع عراقيل للبناء تحتاج إلى فريق كبير من المهندسين لتجاوزها، إضافة إلى الهدم الممنهج للمنازل المبنيّة بدون ترخيص من الاحتلال. وكان المرحوم فيصل الحسيني، ومن خلال بيت الشرق، يعمل على معالجة هذا الأمر، إلا أن غيابه وإغلاق بيت الشرق شتتا تلك الجهود المتواضعة، وزادا من المعاناة، حيث أصبحت تكلفة شقة في القدس تتجاوز نصف مليون دولار، ما يصعّب على الأزواج الشابة إيجاد مسكن ولو بسيط في القدس.
وفي قائمة أولويات المقدسيين وبعد الإسكان، يأتي التعليم في المرتبة الثانية، مع تصاعد الخلاف حول إذا ما كان ينبغي للمدارس في القدس أن تسمح أو لا تسمح بإدخال المنهج الإسرائيلي، ما يساعد الطلاب الذين يبحثون عن فرص مهنية، خصوصاً في الأعمال المهنية المتطوّرة، مثل الأطباء، والمجالات ذات الصلة، إذ يستفيدون أكثر من خلال قدرتهم على التحدّث باللغة العبرية، حيث تزداد الأفضلية لدى شباب عديدين في الانضمام والتخرّج بالجامعات ومعاهد التعليم العالي الإسرائيلي، في حين يعترض كثيرون على الأسرلة التي تمارس في بعض المدارس بالقدس، مفضّلين توجيه الطلاب إلى الجامعات الفلسطينية والعربية.
يشكّل غياب استراتيجية فلسطينية قابلة للتنفيذ منذ 57 عاماً ناقوس خطر، ويجب عدم الاستمرار في إهماله. لقد تنامى في السنوات العشر الماضية وعي جديد نتج عنه تفاهم أن الفلسطينيين في القدس لم يعودوا ينتظرون حلاً من الخارج، ما كسر التابوهات عن محرّماتٍ عديدة سابقة، ومنها مناقشة إمكانية المشاركة الفلسطينية في الانتخابات البلدية المقبلة.
بشكلٍ عام، يعتقد الفلسطينيون المقدسيون أن وقت الشكوى من أسباب محنتهم يجب استبداله بخطط استراتيجية عملية، تتركّز على مبدأ الصمود، ولا تعتمد على قراراتٍ أو توجيهاتٍ من مرجعيات بيروقراطية تعمل في مكاتب مكيفة في رام الله، ولا علاقة لها بالوجع المقدسي.