بقلم: الشيخ كمال الخطيب
اليوم 20 رمضان هو ذكرى فتح مكة ودخول الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام في العام الثامن من الهجرة النبوية الشريفة.
لقد جاء فتح مكة بعد عامين من صلح الحديبية الذي جاء في أعقاب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أنه يدخل المسجد الحرام ويطوف به، فأخبر المسلمين وأمر بالتجهيز للعمرة، وخرج معه قريب من ألف وأربعمائة من المسلمين ليس معهم إلا الهدي، لكن قريشًا التي ما كانت تصدّ أحدًا من العرب عن المسجد الحرام فإنها صدّت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالت دون وصوله. بعد المفاوضات كان صلح الحديبية والذي نصّ في أحد بنوده أن يرجع المسلمون هذا العام بينما يأتون في العام القادم، ونصّ على حق كل قبيلة من قبائل العرب أن تتحالف مع من تريد مع المسلمين في المدينة أو الكافرين في مكة وأن كل من يدخل في الإسلام من أهل مكة فيجب أن يُرد إليها بينما أي مسلم يريد أن يرجع إلى أهله في مكة فله ذلك.
لقد نقضت قريش العهد بقتلها واعتدائها على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني خزاعة، ليكون هذا سببًا في إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش لفتح مكة زيادة عمّا لاقته قريش من قبل من أسلموا من أبنائها ولم يذهبوا إلى المدينة المنورة وفق نصّ الاتفاقية حيث كان يتوجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يردّهم فذهب هؤلاء رضي الله عنهم وفي مقدمتهم أبو بصير إلى أماكن قريبة من الطريق التجارية وراحوا يُغيرون على قوافل قريش التي اضطرت راغمة أن تبطل ذلك البند الظالم من بنود صلح الحديبية.
وإذا كان عدد المسلمين الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأداء العمرة ولم يتحقق لهم ذلك فإذا كان عددهم ألفًا وأربعمائة فإن الإسلام خلال سنتين قد انتشر وازداد معتنقوه حتى أن الجيش الذي خرج لفتح مكة كان يتكون من عشرة آلاف مقاتل.
فلقد تحقق ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه قال الله سبحانه {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} آية 27 سورة الفتح.
لقد تغيّر ميزان القوى وسريعًا بين المهاجر صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا أبو بكر الصديق وبين قريش التي سبق وأعلنت عن مائة ناقة حمراء لمن يأت برسول الله حيًا أو ميتًا، نعم تغيّرت موازين القوى لدرجة أن أبا سفيان زعيم قريش وقد علم وأيقن بعد نقض قريش للعهد بأن رسول الله حتمًا سيأتي لقتالهم، فاستبق ذلك بذهابه بنفسه إلى المدينة للإبقاء على الصلح قائمًا ومحاولة حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر، وكان الأصعب من كل هذا أن ابنته أم حبيبه رضي الله عنها التي سبق وأسلمت وأصبحت زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لمّا دخل عليها وأراد الجلوس فإنها طوت الفراش، فقال لها: يا بنية أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت رضي الله عنها: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس. فقال لها: والله لقد أصابك بعدي شر يا ابنتي!!!
لكم ان تتخيلوا وأن تستحضروا مشهد كتائب جيش الفتح وراياته تخفق وهي تتهادى صوب مكة، وقد ملأ دوي التكبير جنبات مكة وبطحاءها. لكم أن تتخيلوا جيشًا على ميمنته خالد بن الوليد وعلى ميسرته الزبير بن العوام، ويحمل راية الأنصار سعد بن عبادة وقائد المشاة أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم جميعًا.
ولكم أن تتخيلوا وتستحضروا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي في جنبات مكة يا معشر قريش من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، فإذا بصناديد قريش وأدعياء البطولة فيهم يغلقون عليهم أبوابهم أو يلوذون بالحرم أو بدار أبي سفيان وقد أغمدوا سيوفهم.
ولكم أن تتخيلوا وتستحضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، وقد دخل المسجد الحرام وقد أقبل على الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وحول البيت ثلاثماية وستون صنمًا فجعل يطعنها بالقوس ويقول {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} آية 81 سورة الإسراء. {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} آية 49 سورة سبأ. والأصنام تتساقط على وجوهها.
ولكم أن تتخيلوا وتستحضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل إلى داخل الكعبة ليس معه إلّا بلال وأسامة بن زيد، ثم يقف على الباب وأمامه قريش صفوفًا قد ملأت المسجد ينتظرون ماذا يصنع، فأمسك بدفتيّ الباب وهمّ تحته ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثره أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقايه الحاج……
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا قول الله تعالى: {: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} آية 13سوره الحجرات. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم. قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم. قال فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته “لا تثريب عليكم” اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ولكم أن تتخيلوا وتستحضروا أن وقت الصلاة قد حان وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بلالًا أن يصعد إلى ظهر الكعبة ليؤذن، فتضجّ جنبات المسجد الحرام ومن خلفها بطحاء مكة بنداء التوحيد، الله اكبر الله اكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله؛ إن المؤذن ليس إلّا بلالًا العبد الأسود في قاموس قريش والذين كانت سياطهم تنال من جسده تحت لهيب الشمس وهو يردد “أحد أحد الله أحد”، ها هو بلال اليوم يردد صوت الأذان على مسمع من قريش وكبرائها، فلكم أن تتخيلوا أفواههم الفاغرة وأبصارهم المشدوهة.
ولكم أن تتخيلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل دار أم هانئ بنت أبي طالب يغتسل في بيتها ويصلي صلاة الفتح، وفي بيتها حموين لها “ثهرين” قد أجارتهما وأغلقت عليهما الباب، وقد كان أخوها علي يريد قتلهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد أجرنا من أجرت يا أم هانئ”.
لكم أن تتخيلوا وتستحضروا رجالات زعماء قريش يصطفون طوابير ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس عند الصفا ليبايعوا رسول الله على الإسلام، وعمر بن الخطاب يقدمهم واحدًا تلو الآخر ثم إذا انتهى من بيعة الرجال فكانت بيعة النساء حتى إذا جاء دور امرأة كانت متنكرة وهي هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، وهي التي فعلت بعمه حمزة ما فعلت يوم أحد وقد مضغت كبده، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: وإنك لهند؟ قالت نعم فاعف عمّا سلف عفا الله عنك يا رسول الله.
لكم أن تتخيلوا كيف تحققت رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل سنوات وقد تحدث الله عنها في سورة الفتح بدخول المسجد الحرام وفتح مكة وانتصار المسلمين على الكفار والمشركين {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} آية 27 سورة الفتح.
ولكم أن تتخيلوا ليس فقط كيف فتح الله مكة بل كيف سيفتح الله الدنيا كل الدنيا، ويظهر الله الإسلام على الدين كله تمامًا كما ورد في الآية التي تلي آية الفتح لمًا قال سبحانه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 28 سورة الفتح.
فتح القدس
لأن مكة المكرمة هي شقيقة القدس الشريف، ولأن المسجد الحرام هو شقيق المسجد الأقصى ولأن من مكة كان الإسراء ومن القدس كان المعراج. وكما أن مكة المكرمة يومها قد وقعت تحت سطوة طواغيت قريش وكبرائها، فكانت رهينة غرورهم وأسيرة كبريائهم، فإنها القدس الشريف اليوم وقد وقعت تحت سطوة طواغيت بني صهيون، فأصبحت أسيرة أحلامهم ورهينة جبروتهم. إنها القدس الشريف وهي التي من يوم أن تشرّفت برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والصلاة في مسجدها الأقصى وهي التي لم يكن لها هوية إلّا الهوية الإسلامية من يوم أن أطلّ عمر من على جبلها وكبّر واستلم مفاتيحها من صفرونيوس. إنها القدس من يومها وإلى اليوم فهي ليست إلّا إسلامية الهوية حتى وإن كان الاحتلال الصليبي قد احتلها واغتصبها مدة تسعين سنة، حتى وإن كان الاحتلال الصهيوني قد احتلها واغتصبها منذ اثنين وسبعين سنة.
كما رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام ورؤيا الأنبياء حق أنه رأى في المنام أنه دخل مكة هو وأصحابه وأنه دخل البيت وأخذ مفتاحه وطاف مع أصحابه ثم قصّ على أصحابه رؤياه فأيقنوا جميعًا أنهم داخلو مكة وفرحوا فرحًا شديدًا واستبشروا وكان وتحقق ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، إنه ومثل ذلك تمامًا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى من أن الخلافة الإسلامية ستنزل ويكون مقرّها في بيت المقدس لمّا قال صلى الله عليه وسلم لابن حواله وقد وضع يده الشريفة على رأسه رضي الله عنه قائلًا: “إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه إلى رأسك”. فإننا على يقين بإذن الله أن ما قاله صلى الله عليه وسلم سيتحقق مثلما تحقق الذي رآه.
وكما استبشر الخطيب ابن الزكي بفتح القدس وتحريرها من الاحتلال الصليبي على يد الفاتح صلاح الدين بعدما فتح حلب، فقال الخطيب مستبشرًا:
وفتحكم حلبًا بالسيف في صفر مبشر بافتتاح القدس في رجب
وكان ما استبشر به الخطيب ابن الزكي بفتح القدس وتحريرها من الصليبيين.
وإننا اليوم مستبشرون إلى درجة اليقين كما طهرت القدس من الاحتلال الصليبي فإنها ستطهر بإذن الله من الاحتلال الصهيوني، وكما فتحت مكة فإننا بانتظار فتح القدس إن شاء الله.
فلكم أن تتخيلوا مشهد القدس الأسيرة الكسيرة الحزينة اليوم وقد نعق فيها الغربان وتغطرس في شوارعها المغتصبون. إنها هي القدس التي سيأتي عليها اليوم الذي فيه ستغرد فيها البلابل والحساسين، إنها القدس التي فيها سيتأدب المتطاولون والمتغطرسون، إنها القدس التي ومن على نفس الجبل الذي كبّر عليه عمر فسوف يكبّر من هناك أحفاد عمر، إنها القدس التي لمّا احتلها موسى ديّان وزير الحرب الصهيوني عام 1967 ودخل ودنّس المسجد الأقصى ومن هناك اتصل بقيادته عبر جهاز اللاسلكي قائلًا “جبل الهيكل بأيدينا” فإن الدنيا ستسمع من جديد أن المسجد الأقصى لن يكون يومًا هيكلًا ولا معبدًا وأنه لن يكون إلّا مسجد المسلمين وحدهم وليس لغيرهم حق ولا في ذرة تراب واحدة فيه.
وإذا كانت مكة قد شهدت خطبة الفتح خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تحريرها من كفار ومشركي العرب، وإذا كانت القدس قد شهدت خطبة الفتح خطبها الخطيب ابن الزكي الدمشقي بعد تحريرها من الاحتلال الصليبي، فإن القدس ومن على منبر مسجدها الأقصى ستشهد خطبة فتح من جديد بعد تحريرها من الاحتلال الصهيوني يكون خطيبها خليفة المسلمين وإمامهم يعلن للدنيا كل الدنيا نهاية عهد البغي والظلم وبداية عهد العدل والمرحمة، وإن غدًا لناظره قريب. نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.